-مارينا ميلاد:
29 يناير 2018، عفرين، سوريا- اهتزت تلة جنوب قرية عين دارة وما عليها من منازل حجرية، وحتى المعبد الذي يحمل اسمها ويعود تاريخ بنائه إلى الحقبة الآرامية. فهذا المعبد الذي ميزته أسود بازلتية ضخمة ولوحات حجرية؛ تحولت منحوتاته إلى ركام ولم يبق من أحد أسوده إلا مخالبه بعد قصف شنّته أنقرة ضد المقاتلين الأكراد.
وفي أحد الأيام التالية؛ مضى عمار كيناوي (أمين متحف حلب السابق) وفريقه من الأثريين بين هضاب عفرين الخضراء، ليزور المعبد ويُرمم أجزاءه في إطار مبادرته لحماية الآثار السورية بعد اندلاع الصراع المسلح عام 2011.. لكنه عَثر هناك على ما لا يتوقعه.
فوقعت عيناه على تجريف بالتل، وهي إشارة مفهومة لأمثاله: ثمة محاولة نهب جَرت هنا. ولما انتهى من فحص المكان، اكتشف منحوتات وتماثيل مُهمة لم تكن معروفة من قبل.
اضطرب الرجل ولم يعرف ما عليه فعله في تلك اللحظة؟، فإن أبلغ؛ من الممكن- حسب تصوره- أن تتعرض للنهب من فصائل أو يتم تخريبها من جامعات متشددة. فوضع ما أسماه "خطة سرية لحمايتها وإنقاذها". وصارت المسألة في طي الكتمان لسنوات حتى لحظة سقوط حكم بشار الأسد، ديسمبر الماضي. وقتها، بات بوسعه الإعلان عن اكتشافه "الشاهد على 13 عامًا مظلمة في تاريخ سوريا"، كما يقول. لكن في الحقيقة، فالأمر برمته يكشف "معاناة" عاشتها الآثار السورية، ربما مازالت مستمرة حتى الآن.
إلى الجنوب من عفرين، مازالت ملامح الموقع الأثري بتدمر، تلك المدينة المدرجة على لائحة التراث العالمي منذ عام 1980، تشير لما كان يحدث داخله أو على مقربة منه: قاعدة عسكرية للجيش الروسي داخل حرم الموقع، ومجموعات إيرانية مسلحة تسيطر على عدة أحياء بعد تهجير أهلها، وفقًا لما رصده "عمار" خلال جولاته الحالية لتقييم وضع الأماكن الأثرية.
كل شيء في تدمر يدل على أنها أصبحت مدينة مُنهكة، فتأرجحت السيطرة عليها خلال السنوات الماضية بين تنظيم الدولة الإسلامية، ثم قوات النظام السوري بدعم روسي وإيراني، ثم التنظيم مرة أخرى إلى أن تم طرده منها نهائيًا 2017.
فتنطق جدران آثارها بما جرى، "فدمّر تنظيم داعش أهم الرموز كمعبد بيل وبعل وقوس النصر والتترابيل وبعض المدافن البرجية، ثم تعرضت المدينة لقصف عنيف من طائرات النظام السوري والروسي خلال استعادة السيطرة، ما ألحق أضراراً واسعة بها كمدخل قلعة فخر الدين التي تطل على المدينة الأثرية، ومتحف المدينة المنهار جزء من سطحه ولايزال مغلق حتى الآن"، وفقًا لما يذكره "عمار" وهو يتجول ويدون ويصور حال تلك الأماكن.
انطلق "عمار" وفريقه المكون من 6 أشخاص ضمن جولات أعقبت سقوط "الأسد" لتقييم الأضرار ورفع التقارير إلى منظمة اليونيسكو لاتخاذ إجراءاتها أو الإدارة السورية الجديدة إن أولت اهتمامًا، خاصة بعد ما حدث لعدة أماكن، مثل مركز الزوار في قلعة المرقب ودائرة آثار طرطوس اللذين تعرضا للتخريب والسرقة، ليلة سقوط النظام وفي اليومين التاليين، بحسب رصد جمعية أصدقاء المتاحف والمواقع الأثرية في سوريا.
وعمل "عمار" أمينًا لمتحف حلب الوطني (في الفترة بين 2007 – 2014)، لكنه ترك منصبه كونه مناصرًا للثورة السورية. ومن يومها، كَرّس كل وقته لتأسيس مبادرته التي تحولت فيما بعد إلى جمعية "سمات" للحفاظ على المواقع الأثرية والتراث السوري.
وفي شمال سوريا، حيث المنطقة الغنية بالتلال والمواقع الأثرية، تركز نشاطه في أماكن بعيدة عن سيطرة قوات "الأسد"، ليبدأ بتوثيق التعديات، ما يقول إنه "كان مهمة صعبة جدًا، فحجم الانتهاك كبير، ما بين قصف واشتباكات داخل المواقع والنهب وبناء الأهالي مخيمات بها بعد تهجيرهم من بيوتهم".
بل وصَعب مهمته "عمار" أولا؛ ضعف التمويل، باستثناء جزء صغير كان يؤمنه أكاديمون ومؤسسات خارج سوريا، وثانيًا؛ أشياء أخرى يلخصها بقوله: "كنا بين عدم اهتمام المسؤولين بملف الآثار من ناحية، ونظرة الأهالي أن تلك الآثار تمثل سلطة الأسد فتتعدى عليها انتقامًا من ناحية أخرى".
رغم ذلك، نجحت مشاريع الحماية أو كما يقول "الحد الأدني من الترميم لمنع الانهيار"، مثلما حدث في قلعة سمعان، أحد أهم قلاع سوريا ومن أبرز المواقع المسيحية، التي تحولت رغمًا عنها إلى مقر عسكري لفصائل المعارضة، بالتالي تعرضت للقصف الروسي. ثم امتد عمله إلى موقع البارة المسجل على قائمة التراث العالمي، وموقع دير سُباط، الذي استخدم واجهته ذات يوم للتدريب على إطلاق النار، وفقا لما عايشه "عمار".
وربما كان الأهم أو الأكثر مفاجأة له، هو موقع عين دارة، الذي ذهب إليه ليمارس عمله به كغيره، فوجده يبوح إليه بأسراره ووجود قطع فنية وتاريخية مخفاة، يقول "عمار" عنها: "ذات قيمة عالية وستغير تاريخ الموقع والمنطقة"، وهي التي حفظها لسنوات، ليبدأ هذه الأيام الإعلان تمهيدًا للاتفاق مع الجهات المسؤولة على خطة تأمينها.
وكانت حلب القديمة، الموضوعة على قائمة مواقع التراث العالمي المهدد بالخطر منذ عام 2013، ثاني الأماكن التي قَصدها لتقييم وضعها. ولأنها أولى المدن التي سقطت سريعًا في يد قوات تترأسها هيئة تحرير الشام دون مقاومة، "فحال ذلك دون انتشار أعمال تخريب تضر بأثارها"، كما يقول "عمار"، الذي يرى "أن نظام الأسد سعى لاستغلال ملف التراث لتحقيق مكاسب سياسية كما فعل بتدمر، فنفذ عددا محدودا من مشاريع الترميم وإعادة التأهيل لأسواق ومئذنة الجامع الأموي بحلب".
وفي ساحة قلعة حلب، تجمع عشرات الناس لأيام احتفالا بسقوط النظام والتقاط الصور، لكن أبواب القلعة من خلفهم مازالت مغلقة. وعلى مقربة منهم، ثمة لوحات وعلامات لمشاريع ترميم وتأهيل لأجزاء متضررة من بعض المباني بتمويل من جهات كالأمم المتحدة ومؤسسة الأغا خان وحكومة اليابان وغيرهم، لكن بعضها توقف بعد الأحداث الأخيرة، كما يذكر "عمار"، وهو غير متأكد من أن تلك الجهات ستواصل عملها في ظل التغيرات السياسية الجديدة أم لا!
وبينما ينهي جولاته في المدينة الثانية ويكتب توصيات ويخطط للإعلان عن الكشف الأثري الذي أخفاه لسنوات، اقتحم مجهولون متحف جزيرة أرواد التابعة لمحافظة طرطوس، الذي أُنشئ عام 1985، وقاموا بتخريبه ونهب محتوياته.
لم يتعجب "عمار" من ذلك، فلا وقت أفضل لتلك الأعمال من وقت الفوضى، لذا يتمنى أن تُسرع الإدارة الحالية من تأمين المناطق والأماكن الأثرية والاهتمام بهذا الملف الذي "لا يقل أهمية من كل القضايا الإنسانية"، في رأيه. لكن بعد مرور أكثر من شهر على سقوط حكم بشار الأسد وكل ما تبعه من تغيرات سياسية، لايزال يرى "الأمر ضبابيًا".