الهدوء المعتاد الذى يُخيّم على صباحات منطقة فيصل فى الجيزة تبدّد فجأة.. ضجيج المارة، صخب السيارات، وحتى صوت باعة الخضار الذى يتسلل من الأزقة، كلّها خفتت أمام مشهد عقار أخفى الدخان واجهته من بعيد، بدت النيران كأنها فم مفتوحة تلتهم الطابق الثانى عشر، وفى وسط هذا اللهب، كان 3 أطفال يلوذون بشرفة صغيرة، لإنقاذهم من الموت.
التحريات الأمنية أكّدت لاحقًا أن السبب كان «شاحن هاتف» تُرك موصولًا فى إحدى الغرف؛ تلك العادة التى لطالما اعتُبرت «أمرًا عاديًا» كانت الشرارة الأولى لكارثة كادت أن تقضى على 3 أرواح بريئة.
العابر الأول
رمضان محمود، عامل بسيط، يعيش يومه كما يعيش الآلاف غيره، لكن صباح هذا اليوم لم يكن يشبه شيئًا مما اعتاده، إذ كان متجهًا إلى عمله بورشة صغيرة عندما لمح الدخان يتصاعد من العقار.
الدخان ليس غريبًا عن صباحات المدن المكتظة، لكن «رمضان» رأى ما جعله ينسى خطواته؛ فهناك فى الطابق الأخير، وقف 3 أطفال؛ فتاة بالكاد تبلغ الثالثة عشرة، وشقيقيها الأصغر سنًا، أحدهما فى العاشرة والآخر لم يتجاوز الثالثة من عمره، كان الصغار يتشبثون بحافة الشرفة كمن يتشبث بآخر رمق فى الحياة.
لم يفكر «رمضان» كثيرًا؛ ترك حقيبته عند مدخل العقار واندفع نحو السلم، الذى لم يكن خاليًا؛ بل مزدحمًا برجال ونساء يفرّون مذعورين، صعد حتى الطابق العاشر، وأوقفه الدخان الكثيف الذى غيم العقار بأكمله بشكلٍ لا يُطاق، عاد أدراجه بسرعة، ليس تراجعًا، ولكن بحثًا عن حل، وعند مدخل العقار وجد رجلًا سودانيًا يحمل شالًا، التقطه منه ولفّه حول وجهه وصعد مجددًا، الحرارة تزداد مع كل خطوة، صوت النيران يلتهم الصمت، والدخان يبتلع كل شىء، عندما وصل إلى باب الشقة بالطابق الثانى عشر، بالكاد استطاع رؤية ما أمامه، لكن صرخة صغيرة اخترقت الضجيج.. كانت الطفلة الصغيرة، تنادى، وربما فقط تصرخ خوفًا.
«رمضان» استطاع أن يجد الصغيرة، كأن شيئًا ما قاده إلى ذلك الركن المظلم، ليحملها بين ذراعيه ويندفع نحو السلم.. قلبه يخفق كطبول معركة، وعيناه لا ترى إلا وجوه أطفاله فى وجه تلك الصغيرة، وعندما وصل إلى الطابق الحادى عشر، كان هناك رجل آخر فى انتظاره.
جانب من واقعة إنقذا أطفال حريق شقة فيصلالعابر الثانى
محمد شعبان، سائق «توك توك» لم يكن فى طريقه لإنقاذ أحد؛ بل كان متجهًا إلى عمله، لكنه تأخر هذا اليوم «مصادفة»، هكذا وصف لاحقًا وجوده فى مكان الحريق، لكن المصادفات أحيانًا تكون يدًا خفية تكتب قصصًا غير متوقعة.
«محمد» لم يكن يعرف ما يجب فعله عندما رأى العقار مشتعلًا.. الدخان كان كثيفًا، والنار تلتهم النوافذ كأنها وحش جائع، لكنه لم يقف متفرجًا؛ فعندما رأى «رمضان» يحمل الطفلة، اندفع نحوه، كانت يده ممدودة، كأنه ينتظر هذه اللحظة منذ زمن، أخذ الصغيرة بحذر ووضعها على كتفه، ونزل بها حتى وصل إلى بر الأمان، لم يتوقف هناك؛ بل عاد إلى السلم، إلى النار، إلى الرماد.
فى الطابق الحادى عشر، طرق «محمد» باب إحدى الشقق، فتحت سيدة يبدو عليها الخوف، سألها أن تفتح له الشرفة ليحاول الوصول إلى شرفة الأطفال.. في الخارج، البرد كان قارصًا، لكنه لم يشعر به.. الشرفات كانت قريبة، لكنه لم يكن متأكدًا من قدرته على القفز بينها، أمسك بقضبان الحديد وتسلّق كمن يبحث عن حياة تخصه، وعندما وصل، وجد الطفلة الكبرى، الفتاة ذات الـ13 عامًا، وهى فى حالة انهيار تام، تبكى وتصرخ، ثم فقدت وعيها بين يديه.
العابر الثالث
كريم حسن، عامل، فقد ابنته الوحيدة فى حادث سير قبل عام، كان يمر بالمكان وعندما لمح «محمد» يصعد عبر الشرفات لإنقاذ الأطفال، شعر كأن شيئًا يناديه (كأنه صوت ابنته)، صعد السلم بسرعة، ولحق بـ«محمد» فى الشرفة.. الطفلة الكبرى كانت فاقدة الوعى، لكن الطفل الصغير، ذا الأعوام الثلاثة، يقف مرتجفًا فى مكانه، حمل الفتاة بين ذراعيه بحذر، ونقلها عبر الشرفة إلى بر الأمان، ثم عاد ليأخذ الطفل الأخير.
عندما حمل الصغير، شعر بيديه الصغير تين تتشبثان برقبة قميصه، يقول «كريم»، إنه فى تلك اللحظة، لم يكن يرى النيران أو يسمع الصراخ، كان يرى فقط وجه ابنته، وكان يسمع صوتها تقول له: «بابا، خليك معايا».
العقار محل الحريقشاهدون بلا أدوار
فى الخارج، كان الجيران والمارة يقفون فى ذهول، البعض يصور بهواتفهم، والبعض يبكى، لكن الأغلبية كانوا عاجزين عن فعل أى شىء، فالمشهد أكبر منهم، كأنه فيلم سينمائى يعرض أمامهم دون أن يُطلب منهم التدخل، لكن المشهد لم ينتهِ إلا عندما خرج الـ3 الأبطال، يحملون الأطفال الثلاثة، حينها بدأ الدخان فى التلاشى، لكن أثره ظل فى عيون الجميع.
قرار النيابة العامة
التحقيقات لاحقًا أثبتت أن السبب كان شاحن هاتف تُرك موصولًا، فيما حذرت الحماية المدنية الأهالى بعدم ترك الأطفال بمفردهم فى المنازل، خاصةً مع الأجهزة الكهربائية التى قد تكون سببًا فى كوارث مشابهة.
"رمضان" منقذ أطفال حريق شقة فيصل- تصوير: محمد القماشحكاية الأبطال
«رمضان، محمد، وكريم»، الثلاثة الذين اجتمعوا دون ترتيب، يصرون على أنهم لم يفعلوا شيئًا استثنائيًا، يقول «رمضان»، إنه رأى فى الأطفال صورة أبنائه، ويضيف «محمد»، أنه لم يستطع الوقوف مكتوف الأيدى، ويتابع «كريم»: «شعرت أن القدر أرسلنى إلى هناك لتعويض خسارتى».
الحقيقة أنهم أبطال، حتى لو رفضوا الاعتراف بذلك، أبطال كتبوا بقلوبهم قصة نجاة لن تُنسى، قصة عن الحب والشجاعة، وعن تلك اللحظة التى تختفى فيها الفوارق بين البشر، ويصبح الجميع يدًا واحدة، وصرخة واحدة، ونجاة واحدة، وفق ما ردد الأهالى فى المنطقة الشعبية.
وكرّم المهندس عادل النجار، محافظ الجيزة، الشباب الثلاثة الذين أنقذوا الأطفال، قائلًا إن ما قدمه هؤلاء الشباب يعد نموذجًا للشاب المصرى الذى يتميز بالشهامة والعطاء بلا حدود والاستعداد للتضحية بنفسه من أجل الآخرين، موجهًا التحية لأسرهم لتنشئتهم على حب ومساعدة الآخرين.
محافظ الجيزة يكرم الشباب أصحاب واقعة إنقاذ الأطفال بحريق عمارة سكنية بفيصل محافظ الجيزة يكرم الشباب أصحاب واقعة إنقاذ الأطفال بحريق عمارة سكنية بفيصل