يواجه معبد الرأس الأسود، الموجود فى أرض اللاتين بمنطقة باب شرقى، وسط الإسكندرية، خطر الضياع والاندثار بفعل الزمن وعدم الاستغلال الأمثل من قبل وزارة السياحة والآثار ومحافظة الإسكندرية، باعتبارها مسؤولة مسؤولية مباشرة عن الأثر، لاسيما وأن المعبد يُعد من المواقع الأثرية المهمة فى تاريخ مصر، وعمره يصل إلى ١٩٠٠ سنة، حيث أُنشئ فى القرن الثانى الميلادى وجرى اكتشافه فى عام ١٩٦٣.
جانب من مقتنيات المعبدوتحدث الدكتور خالد أبوالحمد، مسؤول المنافذ البحرية الأثرية فى الإسكندرية، عن أن الصدفة وحدها هى التى كشفت عن معبد الرأس الأسود فى عام ١٩٣٦، وبعد تنظيف المعبد ودراسته أمكن نسبه إلى العصر الرومانى بالإسكندرية، مشيرًا إلى أن المعبد من النوع غير المعروف، فهو مكون من طابقين، طابق سفلى للمعبد، وطابق علوى للسكن، لذا يعتبر المعبد معبدًا خاصًا وليس معبدًا عامًا، وأقيمت مبانى هذا المعبد على أرضية مرتفعة مثل كل المعابد الرومانية.
جانب من مقتنيات المعبدوعن وصفه، قال «أبوالحمد»، فى تصريحات لـ«المصرى اليوم»، أنه يمكن الوصول إلى أرضية الطابق السفلى عن طريق درجات من السلم مبنية أمام المعبد ويعرض الواجهة كلها وعددها ١١ درجة، تؤدى درجات السلم إلى دهليز صغير به صف من الأعمدة وتحمل هذه الأعمدة تيجانًا رخامية من الطراز الأيونى، وهى أعمدة أيونية منحوتة من الرخام الأبيض عددها ٤ أعمدة، والأعمدة الأربعة مبنية على قواعد مربعة من الحجر الجيرى (القواعد المبنية)، خلف هذا الدهليز الذى يحتوى على الأعمدة الرخامية توجد الحجرة الرئيسية للمعبد التى تحتوى على التماثيل الرخامية، وهى حجرة مربعة الشكل ويمكن الوصول إليها عن طريق السلم الجانبى فى الحائط الشرقى للمعبد (سلم الكاهن).
معبد الرأس الأسودوأوضح أنه من دراسة المعبد ومحتوياته المعمارية والفنية يمكن القول إن هذا المعبد كان معبدًا خاصًا وليس عامًا لعدة أسباب، هى أن هذا الجزء السكنى يوجد خلف الجزء الخاص بالعبادة مباشرة وملاصق له، وذلك حتى يتسنى لصاحبه أن يتوجه إليه لتقديم القرابين فى أى وقت وبدون أى رقيب على ذلك، وأن الموقع الذى اكتُشف فيه القدم بين العمودين الثانى والثالث فى المنتصف أمام العمالة التى تحتوى على تماثيل الآلهة مثل هذا النذر لا يوضع فى المعابد العامة أبعد من الممر إلا وسط مدخل المعبد، لكن هنا وضع القربان أمام الإلهة التى أنقذته من السقطة المميتة.
معبد الرأس الأسودوأشار إلى أن النص اليونانى الموجود على العمود الرخامى يبين أن إيزيدور بنى هذا المعبد الصغير لإيزيس ليشكرها على نجاته من السقوط وشفاء قدمه، مشيرًا إلى أن التماثيل المكتشفة به من الرخام الأبيض، مثبتة فوق قاعدة مربعة ترتدى الإلهة رداء يلتف حولها وعلى صدرها تظهر عقدة إيزيس المقدسة، ويوجد على رأس الإلهة الريشة المزدوجة، تمسك الإلهة فى يدها اليسرى دلوا صغيرا فى حين تضع يدها اليمنى على صدرها وهى ممسكة بالثعبان، وتكشف الإلهة إيزيس عن ثديها وهذه إشارة إلى أنها ربة الأمومة، كما كانت تبدو فى كثير من التماثيل الأخرى وهى ترضع ابنها الإله حربوقراط.
وأوضح أنه يوجد فى الحائط الشمالى للحجرة الموجودة بالمعبد مصطبة كبيرة مبنية من الحجر الجيرى، وقد وجد عليها وقت الاكتشاف ٥ تماثيل من الرخام الأبيض لآلهة المعبد وهى، الإلهة إيزيس وتمثالان لأوزوريس كانوب وتمثال الإله لهيرمانوبيس وتمثال الإله حربوقراط، وكذلك وجد وقت الاكتشاف عمود من الرخام بين العمودين الثانى والثالث، كما وجد أمام المصطبة التى تحتوى على التماثيل الرخامية مذبح من الرخام لتقديم القرابين للآلهة، وتم نقل التماثيل والقدم والمذبح إلى المتحف اليونانى الرومانى.
معبد الرأس الأسودوعن مراحل إعادة تركيب المعبد فى مكانه الجديد فى باب شرقى، قال «أبوالحمد» إنها تضمنت مرحلة التنظيف الأثرى للمكان بعمل مجسات فيه لم تسفر عن شىء، والقيام بعمل صبات خرسانية عميقة لأرضة المعبد ثم إقامة الخرسانات الخاصة بأرضيات المعبد والجدران والأعمدة التى تحمل تلك الأرضية، وإعادة تركيب أحجار المعبد كل حجر فى مكانه الأصلى، واستكمال بعض الأحجار المفقودة بأحجار جيرية قديمة من مواقع قديمة أخرى، حيث جرى فى عملية التركيب استخدام الأحجار الجيرية التى خرجت من حفائر موقع مكتبة الإسكندرية بالشاطئ عام ١٩٩٣ فى استكمال أحجار المعبد بها من نفس العصر الرومانى.
وأوضح أنه تم تحديد مكانه الجديد فى أرض اللاتين بمنطقة باب شرقى ليكون المكان الجديد للمعبد، ثم تم فك المعبد ونقل محتوياته إلى المكان الجديد، وتم تصوير المعبد فى مكانه الأصلى على ما هو عليه من كل جانب وكل جزء على حدة، ووضع أرقام على جميع أحجار المعبد، ثم تم عمل رسومات هندسية معمارية لمكونات المعبد وتكويناته الداخلية ومقاسات كل أجزاء المعبد وارتفاعاته، بعد ذلك تم فك أحجار المعبد وأعمدته الرخامية والقيام بعملية التنظيف للأحجار وأعمدته ثم القيام بنقل جميع الأحجار والكتل إلى الموقع الجديد تمهيدًا لإعادة التركيب والبناء.
وعن أهمية المعبد، قال إنه يعتبر من المعابد الفريدة المكتشفة فى مدينة الإسكندرية والتى ترجع إلى العصر الرومانى، وأمكن الحفاظ على المعبد سليمًا بعد اكتشافه لكن بعد ذلك أخذ الزحف العمرانى يطوق المعبد من كل جوانبه حتى أصبح من الصعب زيارة هذا المعبد للوقوف عليه مما جعل القائمين على مجال الآثار فى الإسكندرية وفى مصر يفكرون فى نقل هذا الأثر الرومانى الفريد من مكانه الأصلى (أرض الرأس الأسود) وإعادة تركيبه وبنائه فى مكان آخر، (أرض اللاتين- باب شرقى) وذلك للحفاظ عليه، وتمت عملية الفك والنقل وإعادة التركيب من قبل الإدارة الهندسية للمجلس الأعلى للآثار بالإسكندرية مع وجود المفتش المشرف على عملية الفك والنقل وإعادة التركيب والبناء.
معبد الرأس الأسودوقال الخبير الأثرى أحمد عبدالفتاح، عميد الأثريين فى الإسكندرية، إنه يقدر حجم المهام الملقاة على عاتق المسؤولين فى وزارة الآثار لحماية تراث مصر إلا أن معبد الرأس الأسود بالنسبة للإسكندرية أمر فى غاية الأهمية، خاصة أنه أثر لا مثيل له ويقع فى منطقة راقية تتميز بالجانب المكانى والتراثى معًا.
واقترح «عبدالفتاح»، فى تصريحات لـ«المصرى اليوم»، أن يتم طرح المعبد للاستثمار بالتعاون مع القطاع الخاص أسوة بما تفعله الدولة فى المطارات حاليًا باعتباره توجهًا اقتصاديًا محمودًا مع الالتزام بالاشتراطات الخاصة بحماية الأثر حتى لا يكلف الدولة شيئًا ويتم الحفاظ على الموقع من الضياع والاندثار، خاصة أنه أصبح مجرد أطلال.
وعن تاريخ وعمر المعبد، قال إن معبد الرأس الأسود نُقل من مكانه الأصلى فى منطقة الرأس الأسود فى المنتزة شرق الإسكندرية، إلى مقره الحالى بعد فكه وتركيبه خوفًا عليه من الزحف العمراني والسكني حوله، حيث يرجع تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي أي عمره ١٩٠٠ سنة، واكتشف على إثر نوة شديدة هبت فى أكتوبر من عام ١٩٣٦ بعدما غطى الرمل وجه تمثال للإلهة إيزيس إلا أن أمطار الشتاء كشفت عن وجه إيزيس وتكشفت بقية مكونات المعبد، مشيرًا إلى أن المعبد بناه فارس رومانى كان يقطن فى قصره على طريق المحمودية يدعى أيزيدور، ومعناه عطية، وكان يركب عربة حربية يجرها حصانان وأثناء مروره سقط على الأرض وتعرض قدمه للتلف فقدم للإلهة إيزيس قربانا لتشفي قدمه فشفيت فاعتقد أنها هى التى تسببت فى شفائه فعمد إلى إنشاء المعبد وعمل تمثالًا لقدمه موجودًا حتى الآن، وكتب نصًا على التمثال وجه فيه الشكر للإلهة إيزيس.
وأضاف: «لأول مرة فى مصر يُعثر على مجموعة من التماثيل الرخامية الفخمة مخزنة فى حجرة مغلقة داخل المعبد، قرابة ١٥ تمثالا بينها تمثال من البازلت أبوالهول»، مشيرًا إلى أنه تم وضع التماثيل فى المعبد اليونانى الرومانى مع الإبقاء على نماذج تقليدية منها فى المعبد، بحيث إن أى زائر يريد الاطلاع على النسخ الأصلية من التماثيل يمكنه رؤيتها فى المتحف للحفاظ عليها وحمايتها من التلف.
ووصف «عبدالفتاح» المعبد بالمعجزة كونه ذا أهمية تاريخية غير مسبوقة، ويمثل جزءًا من تاريخ حضارة الإسكندرية، وجزءًا من حضارة المنطقة الواقعة بين الإسكندرية وخليج أبى قير، وجزءًا من الحضارة الإيطالية بمصر، وجزءًا من تأثير وتأثر إيطاليا بالديانة المصرية القديمة، فضلًا عن كونه يعبر عن قوة وتأثير الإسكندرية على حوض البحر المتوسط.
وأشار إلى أن حجم المعبد الأصلى فى الرأس الأسود بالمنتزة أكبر بكثير من الحالى، حيث كان يضم مكانًا مخصصًا للكهنة للعبادة، ومكانًا لصاحبه الذى أنشأه، وتم نقل جزء منه إلى باب شرقى خلال التسعينيات حفاظًا عليه لأنه حُوصر بكتلة سكنية ضخمة كادت تمثل خطورة عليه.