-مارينا ميلاد:
على كرسيه قمحي اللون وأمام نيران المدفأة، يجلس دونالد ترامب (الرئيس الأمريكي) في غرفة البيت الأبيض الشهيرة، لا يكل عن إطلاق تصريحاته حول خطته لتهجير سكان غزة إلى عدة دول أخرى، على رأسها مصر والأردن. ومن ثم إعادة بنائها على طريقته الخاصة.
حتى باتت مهمة الرد عليه أكثر ما يشغل العالم، فلا حديث يعلو عن إعمار غزة بعد الحرب الإسرائيلية التي دامت نحو 15 شهرً وتعرضت خلالها نحو 88% من البنى التحتية في القطاع إلى التدمير (وفق آخر إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة)..
فتدفقت الأفكار حول طرق البناء بأسرع وقت ممكن. وقد عزمت مصر، وفقا لما أعلنته رسميًا، على طرح تصور "لإعادة الإعمار بشكل يضمن بقاء الشعب الفلسطيني على أرضه".
ويبدو أن غزة اعتادت دائمًا أن "تبدأ من الصفر"، أن يُعاد إعمارها وتتغير ملامحها طوال تاريخها، تحديدًا منذ إعلان دولة إسرائيل 1948.
البناء التقليدي القديم
فوق تلة مرتفعة محاطة بأسوار عالية، كانت غزة القديمة، التي يرجع تاريخ إنشائها إلى حوالي 3000 عام قبل الميلاد، وتعرضت عدة مرات إلى دمار وخراب لم تتمكن أسوارها من منعه.. ربما ظلت مكانها أو تحركت بعض الأميال لما يعرف بـ"غزة الجديدة"، وهو موقعها الحالي. وعلى الأرجح؛ وفقًا لعدة مصادر تاريخية، أن الاحتمال الثاني هو ما حدث.
وأعاد سكانها بناءها للمرة الأولى.
وعلى تلك الأرض إن كانت القديمة أو الحديثة، خطى القدماء المصريون والآشوريون واليونانيون والفرس والرومان، وجميعهم تركوا بصماتهم في عمرانها، حتى بلغها الحكام المسلمون، حيث نشط أتباعهم في بناء القصور والمساجد والبيوت. بعضها صمد حتى وقتنا الحالي قبل أن يتضرر أو يُدمر جراء الحرب الإسرائيلية الأخيرة.
وما بقي من تلك الأبنية القديمة، أظهر أنماطه المختلفة حسب مواد البناء: بيوت طينية أو حجرية. فالحجر الرملي يمثل مادة البناء الرئيسية لأغلب البيوت الأثرية في مدينة غزة.
ولزمن طويل، استقرت مباني غزة على هذا الشكل التقليدي حتى تغير وجهها تمامًا بحلول عام 1948. عندما أزاحت إسرائيل نحو 750 ألف فلسطيني خارج أرضهم لتعلن قيام دولتها، وذهب منهم نحو 250 ألف إلى غزة الصغيرة ليزيد عدد سكانها بنسبة 300% تقريبًا.
بناء المخيمات
فامتلأت بآلاف الخيام لتضم من صاروا فجأة يحملون اسم "لاجئين" حتى بدأ عمل وكالة الأونروا عام 1950 لتشرف على ثمانِ مخيمات بها تضم هؤلاء. واستبدلت لاحقا هذه الخيام بمآوٍ ثابتة ومتنقلة لكنها كانت متهالكة بدرجة كبيرة.
وأغلب عمليات البناء حينها جرت على يد سكان المخيم أنفسهم، الذين حولوا خيامهم إلى أكواخ ثم منشآت صغيرة من الطوب الطيني وتم تسقيفها من الصفيح المموج المثبت بكتل أسمنتية أو حجارة أو أشياء ثقيلة أخرى.
فبدا الشكل وكأنه مبنى صغير ملقى على قطعة أرض أكبر منه. وذلك حتى تتمكن كل عائلة أن تضيف الغرف والمرافق حسب حاجتها وقدرتها المادية.
وبالفعل، بنى السكان مرحاض واثنين وغرف إضافية بأقصى سرعة.. ولم يهدأ ذلك لسنوات حتى صارت المخيمات مكتظة بسكانها وأبنيتها على حد سواء.
الحكم المصري والبناء الحديث
بعدها، تولت مصر آنذاك إدارة غزة، فكان بين يديها سلطة تخطيط البناء بالأحياء وفقا لقانون تنظيم المدن والقرى والأبنية المعدل لسنة 1955، فيما ظلت الأونروا تتولى مسؤولية إدارة مخيمات اللاجئين بما يشمل تخطيط وحدات السكن والخدمات.
وفي تلك الفترة، ازدهرت أنشطة البناء على يد نحو 4 آلاف عامل بالقطاع (الرسميين)، حيث بلغت حصة قطاع البناء والإسكان في الناتج المحلي الإجمالي 6% عام 1966. وذلك يستثني عمل الأونروا بالمخيمات.
عمل هؤلاء بمواد متوفرة محليًا كالرمل أو مستوردة من خلال مصر مثل الأخشاب والهياكل وأنواع الفولاذ. رغم ذلك، لم يتوفر لهم سوى معدات البناء الأساسية. فكانوا يخلطون الخرسانة يدويًا في الموقع أو باستخدام خلاطات خرسانية صغيرة محمولة.
وخرجت الأبنية في النهاية بشكل حديث متحرر إلى حد كبير من الأشكال والمخططات التقليدية.
ثم تبدل كل شيء مرة أخرى حين وقعت هزيمة 1967 (النكسة)، واحتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة (1967- 1993)، فسيطرت على كل عمليات التخطيط.
وأول ما فعلته، كان محاولاتها تفريغ مخيمات اللاجئين بغزة من خلال تشجيع سكانها على الاستقرار في الضفة الغربية بجانب طرد الآلاف من أقارب المقاتلين.
وبتعليمات من أريئيل شارون (قائد بالجيش الإسرائيلي آنذاك)، شنت القوات حملة على غزة، دمرت فيها آلاف المنازل في المخيمات لإنشاء شبكة واسعة من الطرق وتسهيل دخول المركبات العسكرية وعمليات الرصد والمراقبة.
انسحاب إسرائيل وبناء الأبراج
لم تعد عملية إعادة الإعمار بقوة إلا بعد اتفاقية أوسلو عام 1993 التي سمحت بحكم ذاتي فلسطيني بالقطاع والضفة الغربية تحت زعامة ياسر عرفات. وقتها، تنفست غزة وشهدت طفرة في البناء. وأكثر ما ميزها؛ هو بداية بناء الأبراج السكنية لتستوعب الزيادة السكانية (اقرأ:).
لكن الأرض الضيقة والبناء العشوائي في بعض الأحيان؛ جعل غزة ومخيماتها تبدو أكثر المناطق ذات كثافة سكانية بالعالم.
مهمة الإعمار في ظل الحصار
ولما فرضت إسرائيل حصارها عام 2007 على منافذ غزة الحدودية، ومعها الحركة والتنقل والاستيراد، خنق ذلك أعمال البناء.
وبدا ذلك جليًا حين شنت إسرائيل عليها حروبًا متتالية (2008 و2012 و2014 و2021) دمرت عدد كبير من مبانيها، فأعاد أحد السكان بناء منزله من الحديد والصفيح والجبص بديلا للمواد غير المتوفرة. وبات أمر إعادة إعمارها صعبًا أيضًا على وكالة الأونروا ووزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية.
فوقف مفيد الحساينة (وزير الإسكان والأشغال العامة الفلسطيني)، بعد عام على حرب 2014، مبتسما ومتحمسا وهو يضع حجر الأساس لبيت عائلة حرارة، أول بيت دمرته القوات الإسرائيلية خلال الحرب الفائتة في حي الشجاعية (شرق غزة)، وهو أكثر الأحياء دمارًا. وصاح الوزير للصحافيين: "من أمام منزل حرارة نعلن انطلاقة مسيرة الإعمار الحقيقي لغزة ليلا ونهارا".
لكن في الواقع، جرى ذلك أبطأ كثيرًا من المتوقع.
وذات يوم، ظهر فيليبو غراندي (المفوض العام للأونروا سابقا) غاضبا أمام اللجنة الاستشارية التي تضم كبار المانحين والحكومات المضيفة للاجئي فلسطين، ثم أوضح السبب: "أن 19 من أصل 20 مشروعا إنشائيا في غزة قد توقف، ولأشهر طويلة لم تحصل الأونروا على أية موافقة من الحكومة الإسرائيلية على أي مشروع إنشائي، ولم تعد قادرة على استيراد مواد البناء".
وفي غزة، تشمل مشاريع الأونروا بناء المساكن والمدارس والمراكز الاجتماعية والطبية ومرافق الصرف الصحي والمياه.
وكان أمر إعادة البناء بالنسبة للسكان، أكثر من مجرد إعادة بيت ليسكنوه، فقال أحدهم ويدعى "عاطف"، ممن حصلوا على مساعدة الأونروا لبناء بيته المدمر في حرب 2014، "شعرت بالأمل مرة أخرى، فالحرب ما زالت في داخلنا وتحرق أرواحنا، ولكنني وعائلتي أردنا أن نتخطى ذلك ونبقى مكاننا".
وبعد عام من توقف حرب 2021، التي استمرت 11 يومًا وتتضرر خلالها 2075 وحدة سكنية، أصرت الأونروا على إعادة الإعمار بما هو متاح.
وفي مخيم البريج وسط غزة، تجول فريق من المهندسين والمشرفين بالأونروا لمتابعة الأعمال، فتغير شكل أسقف بيوت هؤلاء، لتصنع من الباطون بدلا من مادة الأسبستوس، الضارة بالصحة والبيئة، فعبر وحيد سند (أحد سكان المخيم) عن سعادته بذلك.
فالرجل الذي عايش حياة الخيمة ثم ذلك المبنى المتهالك قال: "كنا نعاني كثيرًا من البرد والأمطار في الشتاء والحرارة في الصيف". في حين كان كيان أبو صفية، الساكن مدينة بيت لاهيا، محبطًا، فقال وهو يقف أمام بيته الذي أصابه الضرر في أربع جولات من الصراع منذ 2008: "كل ما نعمره يجرى تدميره لاحقًا ".
وعلى مقربة منهم، كانت مشاريع ووحدات أخرى تتم بمنحة وتصاميم وشركات مصرية بمناطق أخرى. إذ قدمت مصر حينها 500 مليون دولار لإعادة الإعمار . وكما ذكرت وزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية، "هذه المشاريع مستوحاة من الحياة العملية في مصر، وتستهدف معالجة الاختناق السكاني وخطوط الطرق، عبر نقل فكرة الجسور".
إعمار لا يشبه غيره
ولم يمر سوى عام واحد على تلك البيوت والطرق الجديدة إلا وشهدت غزة الحرب الأبشع عليها في السابع من أكتوبر 2023، لتستمر أكثر من عام وتفقد نحو 70% من أبنيتها، تاركة وراءها نحو 40 مليون طن من الحطام؛ يحتاج رفعها أعوام، حسب تقديرات الأمم المتحدة.
ومع إعلان وقف إطلاق النار، منتصف يناير الماضي، عادت العائلات النازحة أدراجها إلى مناطقها المدمرة لتنصب خيامها المهترئة وسط دمار البنية التحتية من شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء.
المشهد، الذي استدعى وضع تصورًا لبناء غزة "التي سويت بالأرض" من جديد بشكل لم تعهده من قبل.
فخرج زاهر سعدي (رئيس المجلس الفلسطيني لإعمار غزة) ليقول "إن بدخول 2000 معدة ثقيلة يمكن إزالة الركام وإفساح المجال للإعمار، وسيجري بثلاث مسارات في البناء: الطرق التقليدية القديمة، والمباني الحديدية الأسمنتية الحديثة، والبيوت الجاهزة التي تخرج من المصانع للتركيب مباشرة، وبذلك يمكن أن ننهي الإعمار بشكل مبدئي في 3 سنوات ونهائي في 5 سنوات".
في الوقت نفسه، طرح هشام طلعت مصطفى (رجل الأعمال المصري)، خلال تصريحات تليفزيونية، خطته "من خلال بناء 200 ألف وحدة سكنية لإيواء 1.3 مليون شخص خلال 6 مراحل تستغرق 30 شهرًا، مع إعمار البنية التحتية اللازمة من مستشفيات ومدارس وكهرباء ومياه وخدمات أخرى، بتكلفة إجمالية تصل إلى 27 مليار دولار".
كما أن أطنان الركام التي تملأ الأفق بغزة يمكن إعادة استخدامه عند بناء الطرق، كما يوضح "مصطفى"، ولم يتطرق إلى مسألة التصميم المعماري.
بينما ينتظر سكان غزة البالغ عددهم نحو 2 مليون شخص، بفارغ الصبر تنفيذ أي من هذه الاقتراحات وإعادة بناء بيوتهم كما اعتاد أن يفعلوا دائمًا، فيقول أسامة الكحلوت (أحد السكان)، "بيتي مثلا كلفني ما يقدر بـ75 ألف دولار، وهناك منازل تحتاج أكثر من هذا المبلغ عشر مرات، لكن على أي حال سأبنيه حسب المتاح، وسيكون أجمل مما سبق".
ووسط ذلك، لا أحد يملك توقعًا لما ستكون عليه غزة خلال الأعوام المقبلة. الجميع يتكلم بوتيرة سريعة، يسابقون بعضهم والزمن. فالرئيس الأمريكي يتصورها "ريفيرا الشرق الأوسط" بتنفيذه مشروعات اقتصادية وسياحية: "سيحصل الفلسطينيين على مساكن أفضل كثيراً في مكان أخر ويعيشون بسلام"، ومصر تعمل على مخطط متكامل لإعمارها دون تهجير أحد منها: "لا سلام دائم إلا بالحفاظ على حقوقهم وبدولة فلسطينية".
مصادر المعلومات القديمة:
-دراسة عن البناء والإسكان في الضفة الغربية وقطاع غزة، أعدها الدكتور رامي عبد الهادي مستشار بمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD).
- الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية.
----------