في أجواء عاصفة وممطرة بمنطقة مقبرة بلدة بني سهيلا الواقعة شرق محافظة خان يونس (جنوب غزة)، حمل أفراد حركة حماس، أمس الخميس، جثامين أربعة إسرائيليين في توابيت سوداء. كان هؤلاء محتجزين لديها منذ السابع من أكتوبر2023، والآن تعيدهم ضمن اتفاق وقف إطلاق النار وصفقة تبادل السجناء والرهائن.
الصور الظاهرة فوق التوابيت تخص شيري بيباس وطفليها كفير وأرئيل، وعوديد ليفشتس. وتقول حماس "إنهم جميعاً كانوا على قيد الحياة، وإسرائيل قتلتهم خلال الغارات".
تسلم الصليب الأحمر الجثث الأربع، وسلكت طريقها إلى إسرائيل، إلى يد أعضاء جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) في غزة. عبرت الحدود ووصلت بحراسة مشددة إلى معهد أبو كبير للطب الشرعي في تل أبيب، للتعرف على هوياتهم بشكل رسمي.
ولما فُتحت التوابيت، ورغم أن عملية الفحص من المفترض أن تستغرق يومين، إلا أن إسرائيل خرجت سريعًا صباح اليوم، لتتهم "حماس" بانتهاك اتفاقها بعد أن كشف الفحص أن واحدة من الجثث لا تخص صاحبتها: "ليست جثة الرهينة شيري بيباس!".
ولم يكن هذا النزاع الدائر بين إسرائيل وفلسطين حول الجثث أمرًا جديدًا، لكنه طالما صدر من جانب واحد في أغلب الأوقات. إذ بدأت القصة مع "مقابر الأرقام"، والآن وصلت إلى الجانب الآخر مع "جثث الرهائن".
في مثل هذه الأيام من شهر فبراير- 2020، كان جسد شاب فلسطيني يدعى محمد علي حسن (27 سنة) مستلقيًا قرب السياج الحدودي الإسرائيلي مع قطاع غزة، حيث مسرح الاشتباكات الدائم، وذلك بعد أن أصيب بطلق ناري. فاندفع نحوه أصدقاؤه، محاولين سحب جثته على بعد 100 متر من الشريط الحدودي، إلا أن القوات الإسرائيلية أطلقت النار عليهم، وفي نفس اللحظة، زحفت جرافة نحوهم لتدهس الجثة ثم تلتقطها وتبقى متدلية من ذراعها، حسبما أظهرت مقاطع الفيديو الموثقة.
وكان الرد الإسرائيلي وقتها: "أن هذا الشاب زرع عبوة قرب السياج الأمني، والجرافة التابعة للجيش نقلت جثته بشكل لا يعرض حياة جنوده للخطر بما يتفق مع الظروف على الأرض".
ذهبت جثة "محمد" إلى إسرائيل ولم تعد حتى الآن.
فوضعت "الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة" (حملة أطلقها مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان في العام 2008) اسمه في قائمة أعدتها للجثث المحتجزة لدى إسرائيل، والتي بلغ عددها وفقا لتقديرهم نحو 665 شخصًا.
ولم يشمل هذا الرقم ضحايا حرب غزة الأخيرة، التي امتدت نحو 15 شهرًا.
وبين هؤلاء محتجزون منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومن لحقوا بهم من مخيم الفارعة بالضفة الغربية، خلال هذا الأسبوع، كما تذكر الحملة في بيانها. وجرى توزيعهم على ثلاجات أو ما يسمى بـ"مقابر الأرقام" التي صنعتها إسرائيل.
وتلك المقابر هي مدافن متواضعة مُحاطة بالحجارة وبدون شواهد، ومثبت فوق كل قبر بها لوحة معدنية تحمل رقماً معيناً. لهذا سُميت بهذا الاسم. ويبدو أن لكل رقم ملفًا خاصًا تحتفظ به الجهة الأمنية المسؤولة، ويشمل المعلومات والبيانات الخاصة بكل شخص.
ورغم أن هذه المقابر تحيط بها السرية، وليس هناك معلومات محددة عنها، إلا أن مصادر إسرائيلية ومؤسسة الدراسات الفلسطينية اجمعوا أن "هناك مقبرة منهم تقع في منطقة عسكرية عند الحدود الإسرائيلية – السورية – اللبنانية، وربما تضم نحو 500 قبر لفلسطينيين ولبنانيين؛ غالبيتهم ممن سقطوا في حرب 1982، وثمة مقبرة أخرى بمنطقة عسكرية مغلقة بين مدينة أريحا وجسر داميه في غور الأردن، وهي محاطة بجدار وبوابة حديدية معلق فوقها لافتة بالعبرية: (مقبرة لضحايا العدو)".
واقع تلك المقابر وساكنيها، يصفه إسماعيل الثوابتة (مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة) بأنه "جريمة إنسانية تستوجب تحركًا دوليًا عاجلًا". وأشار في تصريحات له إلى أن هؤلاء المستقرين داخل مقابر الأرقام "بينهم أسرى أُعدموا بدم بارد داخل السجون، أو في أثناء الاعتقال"، مطالبا بتسليم جثامينهم.
وبعض الجثث سُلمت من إسرائيل خلال أوقات متفرقة بين أعوام 2012 – 2024، ضمن صفقات التبادل. لكن لايزال مصير آخرين منهم مجهولًا، لذا تتحدث "الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء" دائمًا عن "احتمالية قيام السلطات الإسرائيلية بانتزاع أعضاء من جثث ومبادلة أخرى من قبل معهد أبو كبير للطب الشرعي".
وصادفت الدكتورة الإسرائيلية مئيرا فايس هذه الجثث حين كانت تواظب على الذهاب إلى معهد أبو كبير لإجراء بحث علمي بين أعوام 1996 - 2022، فتحكي في كتابها "على جثثهم الميتة"، "في تلك الفترة رأيت كيف كانت تتم سرقة الأعضاء، شاهدتُ كيف كانوا يأخذون أعضاءً من جسد فلسطيني، قرنيات، وجلدًا، وصمامات قلبية، ولا يمكن لأناس غير مهنيين أن يتنبهوا لنقص هذه الأعضاء، حيث يضعون مكان القرنيات شيئاً بلاستيكياً، ويأخذون الجلد من الظهر بحيث لا يرى أحد ذلك".
هذا المعهد هو نفسه الذي وصل إليه، أمس، الجثامين الأربع الخاصة بالرهائن، وأظهر فحصه أن ثلاث جثث من الموضوعة أمامهم هي بالفعل للطفلين "كفير" و"أرئيل" (خمس سنوات وعامين)، والأسير "عوديد ليفشتس"، أما الرابعة فهي غير حقيقية وليست لـ"شيري بيباس" ولا أي رهينة أخرى.
جثة "شيري" قد تكون اختلطت مع بقايا بشرية أخرى من تحت الأنقاض جراء القصف الإسرائيلي، هكذا تظن حركة حماس، ولا تستبعد "وقوع خطأ غير مقصود"، وفقًا لردها، الذي تقول فيه: "تلقينا من الوسطاء ادعاءات ومزاعم الاحتلال وسنفحصها بجدية تامة وسنعلن النتائج".
لكن بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء)، اليوم الجمعة، يبدو أنه لم يقنعه فكرة "الخطأ غير المقصود"، فيقول عن حركة حماس: "لم يكتفوا باختطاف الأب، ياردين بيباس، والأم الشابة، شيري، وطفليهما، بل إنهم بطريقة ساخرة لا توصف، لم يعيدوا شيري، ووضعوا جثة امرأة من غزة في النعش!".
وزوج "شيري"، ياردين بيباس، صاحب الـ35 عاماً، أفرجت عنه "حماس" في الأول من فبراير الجاري ضمن اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير الماضي، مقابل إطلاق سراح الرهائن الـ251.
ومن المفترض، أن تفرج حركة حماس، غدًا السبت، عن ست رهائن أحياء.
وبحلول نهاية الأسابيع الستة الأولى من الاتفاق، التي تنتهي في الأول مارس، يجب أن يفرج عن نحو 1900 سجين فلسطيني مقابل إطلاق سراح 33 رهينة إسرائيلية، بينهم ثماني جثث.
فيتعهد "نتنياهو" في كلمته الاخيرة بـ"إعادة شيري وكل الرهائن؛ أحياء وأموات". وعلى الناحية الأخرى، يقول عبد الناصر فروانة (عضو المجلس الوطني الفلسطيني ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين)، إنه "مهما طال الزمن، يصر الفلسطينيون على استعادة جثامين أبنائهم من سجون الأموات، هم يخوضون المعارك قانونية ويجددون مطالباتهم للسلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة بإدراج أسماء بقية الجثامين ضمن أي صفقة تبادل". لذا تدور الأحاديث حول مطلب حماس استعادة جثة قائدها، يحيى السنوار، وهو ما أكدته مصادر قريبة من سير المفاوضات، إلا "أن مسعاها قوبل برفض إسرائيلي قاطع". ولم تعلق إسرائيل وحماس حتى الآن على هذا الأمر.
ويحيي الفلسطينيون "اليوم الوطني لاسترداد الجثامين المحتجزة والكشف عن مصير المفقودين" في 27 أغسطس من كل عام.