مصراوي

2025-02-24 19:30

متابعة
تنفيسة| «السباعي».. رائد الأمن الثقافي (2 – 2)

نستأنف رحلة الأديب يوسف السباعي، لنتأمل في هذا المقال إرثه الثقافي ومعاركه النقدية، التي عكست لنا ملامح عصره. ولعل الناظر لعبارة معاركه النقدية قد يتخيل إليه الدور الذي لعبه السباعي في إثراء الأدب والثقافة، إلا أن الأمر على العكس من ذلك تمامًا فلقد كان السباعي بمثابة الخصم اللدود لكثير من أبناء جِيْله، لذلك نجد أن أحد المحاور الرئيسية التي تدور حولها مقالات السباعي الباكرة هي معركته أو قل معاركه المستمرة مع النقاد، فلقد لقى السباعي من النقاد الايديولوجيين عنتًا شديدًا، ومُنذُ البداية وقف هؤلاء النقاد من أدب السباعي، بل ومن السباعي نفسه موقفًا غير مقبول وغير مبرر على الإطلاق.

يقول السباعي في كتابه "لطمات ولثمات": "رغم إحساسي بأن الكثير من مخلوقاتي استطاعت أن تقف على قدميها، وتنصف نفسها وتنصفني معها، إلا أنني لم أستطع أن أدع نفسي أبدًا عن التدخل في أمرها وصد الهجوم عنها، قد يكون تدخلي فورة انفعال، وأني لو استطعت أن أمسك أعصابي برهة حتى تهدأ نفسي، لما تدخلت للدفاع عنها، ولما حصلت من أجلها المعارك، وقد يكون سبب تدخلي أكثر من مجرد انفعال، أنه إحساس بالظلم، وبقصر نظر أولئك الذين يتعرضون للنقد، وبضيق مقاييسهم وجمود قوالبهم التي يحاولون أن يحشوا فيها مخلوقاتنا الأدبية، على أية حال، أيًا كان سبب اندفاعي في الرد على النقاد وابداء آرائي في النقد والأدب، وأيًا كانت النتيجة هذا الاندفاع في اثارة الخصومات ومضاعفة الهجمات، فإني أحس الآن أن ردي لم يكن منه بد.."

ولا شك أن النص السابق يقطر مرارة وأسى، فيوسف السباعي يدرك تمامًا إلى أي حد يقف منه النقاد موقفًا يخلو من الموضوعية والانصاف، فلقد تكأكأوا (اجتمعوا) النقاد عليه طوال الخمسينات، وراحوا يناوشونه مناوشة فيها كثير من القسوة والعنف واللدد (الخصومة الشديدة)، وربما مارس السباعي النقد الأدبي، كي يفي بحق الصداقة أو يفسر ظاهرة أدبية أو يدق الأجراس إذا ما انحرفت مسيرة الأدب عن جادة الصواب. ولكن هل يستحق السباعي كل هذا؟ هل أدب السباعي لم يُقَدِمَ جديد للمكتبة والثقافة العربية؟

عزيزي القارئ، السباعي جمع بين المذاهب الأدبية في أدبه، بل وربما يجمع بينها في العمل الأدبي الواحد، فالرومانسية عنده تلقى مع "الواقعية"، وقد تردك "الواقعية" النقدية، أو تتعانق مع "الواقعية الاشتراكية" كل هذا في مفهوم السباعي وما يحدثه من رؤيته الوطنية. كما أن للسباعي نظرة متفردة، إلى الطبيعة في مصر، نظرة تبدأ أخلاقية، وتتجسد متبلورة عن حقيقة اقتصادية، وراء الكثير من السلوك السلبي.

فالتجربة الأساسية عند السباعي هي تجربة البحث عن الشخصية المصرية سواء في عالمه المحيط به وعالمه الداخلي، وقد تمثل السباعي إحساس هذا الفنان المصري، ببصيرته الغريزية المدربة التي تنفذ إلى ما وراء الأشكال الظاهرة لتحيط بقوانينها المستترة. وهي التي أطلقت قلمه أديبًا يكتب قصصه دفاعً عن كرامة الإنسان في حقه المشروع في الحب وإثباته لكرامة الإنسان في المواقف الوطنية وتأكيدًا لذاتها في كفاحه ونضاله وتوضيحًا لمعنى القيم الرفيعة في الأدب والاجتماع والسياسة.

وقد تمثل هذا الموقع الفريد في أدبه، حيث تبلور لديه مفهوم للرواية ينبع من هذا التمثل، فيرى الرواية عرضًا لمرحلة من الحياة بكل ما بها من علاقات متشابكة وبكل ما تحتويه من أحاسيس وانفعالات، وتنوع في الشخصيات، وفي المكان، بحيث تكاد تشمل تاريخ فرد، إن لم تكن جزءًا من تاريخ الوطن بما يحيط به من علاقات بشرية أو أسرية أو وطنية قوميه، وعالمية.

ومفهوم السباعي هذا للرواية هو جزء من مفهوم العام للأدب، الذي يراه تعبيرًا صادقًا عن انفعال إنسان يعيش في مجتمع من المجتمعات، يتصل به، ويتشابك في علاقات متعددة مع أفراده وهذا التعبير الصادق له قدرته على التأثير في الغير على النحو الذي يغير من الاتجاهات تغييرًا نحو الأفضل على مرور الزمن، وبأسلوب غير تعسفي أو مقصود، وينبع سحر الرواية في رؤيا السباعي – كشكل أدبي من إحساس القارئ أو الإنسان بوجه عام بحضوره في هذا الشكل، بكل آلامه ومتاعبه، إحساس ينبع من الرغبة في تغيير الأوضاع التي ينبغي أن نتجاوزها بالتخطي نحو الأفضل.

وفي أدب السباعي تجد ذلك النزوع إلى التوحيد، فقد صور شبوب الثورة المصرية تصويرًا رائعًا من أحداث "رد قلبي" وبها قام بتجسيد دراسي للثورة المصرية عام 1952م، ثم توالت الأحداث منذ ذلك التاريخ، وحاول من مرة أخرى تجسيد أحداث تأميم القناة في رواية "نادية" وفيها أعطى تصورًا شموليًا لقصة العدوان الثلاثي على بورسعيد. وصور الوحدة بين مصر وسوريا في قصة "جفت الدموع" التي يدعو فيها لتقوية أواصر الوحدة العربية بين دول العالم العربي. وفي القصة الأخيرة يصور ذلك النزوع إلى التوحد القومي.

وإذا ما انتقلنا إلى روايته "أرض النفاق" نجدها بمثابة منشورًا ثوريًا أو مشروعًا للثورة، وقد صدرت هذه الرواية في عام 1949م، وتمكن – خلال الظلام والفساد والتعفن، التي كانت تعيش في ظلالها البلاد – من أن ينتقد الأوضاع الظالمة انتقادًا مريرًا، وأن يسخر منها ويبشر بالثورة عليها... انتقد الفساد السياسي والظلم الاجتماعي، وصور كيف كانت تدار البلاد، وتمكن بينه اللاقطة، أن يلمح فساد العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة وقتذاك، على أنه في انتقاداته السياسية والاجتماعية كان يملك دائمًا روح السخرية مما يضفي على انتقاداته رشاقة وخفة، وعمقًا. ولقد كان يحول أعظم المآسي إلى مشهد ضاحك يثير السخرية والضحك، ولكنها سخرية تفيض بالأسى وضحك يشرق بالدموع.

ولقد تحققت بالفعل أمنية يوسف السباعي التي تمناها، عندما قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952م، وأحدثت أكبر تحول في تاريخ العرب الحديث، وعلى ضوء أحداث هذا التاريخ يمكن القول إن هذه الكلمات التي سجلها يوسف السباعي في "أرض النفاق" لم تكن مجرد أمنية تجيش في صدره وتحتدم في وجدانه، ولكنها رؤية ضابط شاب يعيش في جيش كانت تحتدم فيه تيارات الثورة كالمياه الجوفية، ولكنه على كل حال تمكن من أن يعكسها من خلال شكل فني جميل سماه "أرض النفاق".

ولم يقف السباعي عند القضايا الوطنية، وقد شغلت القضية المصيرية لتحرير الأرض والعرض فكر كاتبنا وما زالت – فتعرض لها في أغلب رواياته مثل "طريق العودة" التي تناول فيما قضية شعب فلسطين والحلم بتحرير الأرض واستردادها وعودة الشعب الذي شرد جراء الخيانات السياسية والعسكرية والمتاجرة بمصير الشعوب.

وختامًا، بعد أن طفنا وتأملنا مسيرة هذا الأديب الشمولي، فكان قلمه بمثابة ريشة الفنان القادر على تصوير الحياة، الأمر الذي جعل من رؤياه الإبداعية بوجه عام رؤية شديدة الإنسانية، عميقة في البحث عن المصير الكلي للبشر، وهي الميزة التي تعتبر المقياس للأديب الشمولي. ولهذا زخرت مسيرته الأدبية بما أعطاه للمكتبة العربية من نتاجات فكرية في مجالات القصة والرواية والمسرحية وأدب الرحلات، فاستحق لقب رائد الأمن الثقافي.

الأخبار المتعلقة

  • تنفيسة| «السباعي».. رائد الأمن الثقافي (1 – 2)

  • تنفيسة| «غاندي».. الحكيم الثائر (3 – 3)

  • تنفيسة| «غاندي».. الحكيم الثائر (2 – 3)

  • تنفيسة| «غاندي».. الحكيم الثائر (1 – 3)

للإطلاع على النص الأصلي
25
0
مشاركة
حفظ

آخر الأخبار

أحدث الأخبار

    أحدث الفيديوهات