المصري اليوم

2025-03-01 00:32

متابعة
«كان نفسه يجيب لنا طلبات رمضان».. زوجة ضحية «صاحب فرن الوراق»: «قتلوه وهو بيجيب العيش»

قُتل عم سعيد، الرجل الستيني، سائق بإحدى الشركات، على يد «محمد.ص»، مالك الفرن البلدي في منطقة الوراق بالجيزة، وابنيه إسلام ومهند.. طعنوه بالسكاكين أمام الناس، ضربوه حتى سقط، ولم يتركوه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. كل هذا، فقط، بسبب «ركنة أتوبيس»، وفق تحريات أجهزة الأمن ورواية أسرة المجني عليه وشهود العيان.

«كل حاجة هتبقى جاهزة قبل رمضان»

كانت تلك الجريمة ستبدو كغيرها، لو لم يكن الضحية رجلًا مثل عم «سعيد».. رجلٌ عاش عمره تحت وطأة التعب، لم يكن يعرف للراحة طعمًا، ولم يشتكِ أبدًا.. كان يعمل بلا كلل، يقود الأتوبيس كل صباح، ينقل الموظفين إلى أعمالهم، ويحلم دائمًا بيومٍ يستطيع فيه أن يوقف المحرك للأبد، يجلس وسط أبنائه، يملأ البيت بحكايته القديمة، وينتظر الأذان ليفطر معهم في شهر رمضان المبارك، دون أن يكون مضطرًا للرحيل قبل العشاء ليبدأ رحلته الليلية على الطريق.. لكنه لم يصل إلى ذلك اليوم.. حسب زوجته المكلومة.

في الليلة السابقة، كانت زوجة «سعيد» تجلس بجواره، تحصي النواقص في البيت، تستعد لقدوم الشهر الكريم.. «لسه ناقص زيت وسمنة وياميش يا حاج»، ابتسم لها، كأنه يطمئنها: «كل حاجة هتكون جاهزة قبل رمضان.. أنا عمري ما خيبت ظنك».

لم يكن مجرد وعد، بل كان يقينًا في قلبه.. كان الرجل يؤمن أن العافية رزق، وأن العمل نعمة، ولم يكن ليترك أهل بيته في حاجة لأي شيء وهو قادر على توفيره.. رمضان كان له طقوسه الخاصة في بيت عم «سعيد».. كان يحب أن يفطر وسط عائلته، يجلس في ركنه المعتاد، يمد يده نحو التمر، ويردد دعاء الإفطار بصوتٍ جهوري. كان أبناؤه يتحلقون حوله، يراقبون يديه وهي تقسم الطعام، وكان قلبه يمتلئ بالطمأنينة وهو يراهم يأكلون.

«يا رب دايمًا نفضل قاعدين كده، ودايما الفطار يبقى جمعه»، هكذا كان يردد، لكن في هذا العام، لم يكن على المائدة، لم تكن يداه تقسم التمر، لم يكن صوته يسبق أذان المغرب بدعاءٍ خاشع، تدمع عين زوجته وهى تذكر.

المجني عليه ضحية صاحب فرن الوراق

«صرخ من الألم»

في السادسة صباحًا، أوقف «سعيد» الأتوبيس عند أول الشارع، بالقرب من فرن «محمد.ص».. كان يفعل ذلك كل يوم، ولم يكن يتوقع أن يكون اليوم مختلفًا. «خمسة أرغفة، وهاخدهم وأمشي على طول»، قال لصاحب الفرن الذي رفع رأسه بوجه متجهم: «الأتوبيس بتاعك معطل الطريق، لازم تشيله حالًا».

لوّح عم «سعيد» بيده مطمئنًا: «دقيقتين وهكون مشيت، بس آخد العيش وأطلع على شغلي»، لكن الكلمات لم تجد طريقها إلى العقل الغاضب. فجأة، خرج الرجل من خلف الفرن، وزقّه بعنف، فسقط السائق الستينى على الأرض. كانت السقطة مؤلمة، ليس لجسده فقط، بل لكرامته أيضًا. كيف لرجلٍ قضى عمره في الشقاء، أن يُهان بهذه الطريقة؟.. هكذا تساءلت زوجته حزينة.

لم يكن وحده من شعر بالإهانة، تقول زوجة «سعيد»، إنه في لحظة غضب، أخرج هاتفه واتصل بابنه عادل: «يا ابني.. أنا اتضربت تعالى إلحقني، محمد صدقة زقني ووقعت على الأرض».

كان «عادل» نائمًا، لكنه قفز من فراشه فور سماع صوت أبيه.. لم يكن يستطيع تخيل والده في هذا الموقف. هرع إلى المكان، وعندما وصل، رأى والده واقفًا، لكن الانكسار كان واضحًا في عينيه.

«إيه اللي حصل؟».. لكن السؤال لم يكن بحاجة إلى إجابة. فقد ظهر محمد صدقة وابناه، يحملون السكاكين، والغضب يتطاير من أعينهم. قبل أن يتمكن «عادل» من استيعاب الموقف، تلقى طعنة في يده اليسرى، شعر بقطرات دمه الحار تنهمر، سقط على الأرض، حاول أن يرفع يده، لكنه لم يستطع.. فقد قطعوا أوتارها تمامًا.

صرخ من الألم، لكنه لم يملك وقتًا ليستوعب الجرح، إذ انقض عليه أحدهم بلكمة في وجهه، ثم ركلة في صدره.

ابن الضحية المٌصاب في الجريمة- تصوير: محمد القماش

«لازم أحضر جنازة أبويا»

لم يكن «مصطفى»، الأخ الأصغر، بعيدًا عن المشهد. عندما وصل، رأى أخاه غارقًا في الدماء، وأباه يلهث وسط الشارع. حمل أخاه المصاب، وركض به نحو المستشفى، لكنه لم يعلم أن تلك الركضات الأخيرة بعيدًا عن أبيه، ستصبح ندمًا يطارده للأبد.

ففي اللحظة التي غاب فيها «مصطفى» عن المشهد، كان الموت قد أعدّ خطواته الأخيرة لأبيه... الطعنات جاءت متتابعة. الأولى في الساق اليسرى، صرخة ألم، لكنه لم يسقط. الثانية قطعت وريدًا، لكن قلبه ظل يقاوم. الثالثة، ثم الرابعة، ثم ضربات أخرى بالركلات والآلات الحادة.. لم يعرف أحد عددها بالضبط، لكن كل طعنة كانت تسلب منه عامًا من أعوام حياته الستين.

في المستشفى، كان «عادل» فاقدًا للوعي حين تلقى الخبر. الطبيب أخبر أخيه «مصطفى» أن العملية نجحت، لكنه كان مترددًا في إخباره بالأمر الآخر.. «أبوك مات».

لم يكن هناك متسع للدموع. كان يجب أن يخرج من المستشفى، بأي طريقة: «لازم أحضر جنازة أبويا».

حاول الأطباء منعه، لكن تصميمه كان أكبر من الجرح. خرج من المستشفى ويده ملفوفة بالشاش الأبيض، بالكاد يستطيع تحريكها، لكنه لم يكن يهتم بالألم الجسدي.. فقد كان الألم الحقيقي أكبر من أي طعنة، وفق حديثه لـ«المصرى اليوم».

«مات عشان العيش»

في البيت، كان الجميع في حالة ذهول. لم يكن الأمر مجرد موت، كان خسارةً فادحةً، موتًا غير مفهوم، بلا سبب، بلا معنى.. «ده كان رايح يجيب عيش رجع محمول على الأكتاف وابنا كان هيحصله.. جوزى كان بيقول لي مش عايز أمد إيدي لحد.. كان بيقولي هجيب لك كل طلبات رمضان.. كان بيودعنا من غير ما نفهم!»، وفق زوجة المجنى عليه.

في اليوم التالي، كان المكان هادئًا، لكن الفرن كان مغلقًا، والشرطة قد ألقت القبض على محمد صدقة وأحد أبنائه، بينما ظل مهند هاربًا. أمام وكيل النائب العام، وقف صاحب الفرن وابنه «إسلام» يقولان: «كل ده بسبب ركنة أتوبيس قرب الفرن وتعطيل الطريق».

في بيت عم «سعيد»، كانت صورة الرجل الذي عاش عمره من أجل أسرته تُطالع الجميع بصمت. كان غيابه ثقيلًا، لكن صوته كان لا يزال يتردد في المكان، في كلمات زوجته، في دموع أبنائه، في صدمة الناس من حوله.

كان «أبوسماح»، العجوز الذي اعتاد الجلوس أمام الفرن كل صباح، شاهدًا على الجريمة، لكنه لم يستطع فعل شيء. جلس بعدها في ركنه المعتاد، لكنه لم يطلب رغيفًا واحدًا في ذلك اليوم. كان صامتًا على غير عادته، وعيناه تراقبان بقعة الدم التي لم تجف بعد على الرصيف.

«سعيد مات.. مات عشان العيش!»، تمتم بالكلمات وهو يهز رأسه بحزن.

كان يعرف عم «سعيد» منذ سنوات، كان يراه كل صباح، يلوّح له بيده، يبتسم رغم التعب الذي يحفر ملامحه.. «الرجل الشقيان اللي ما بيزعلش حد».. هكذا كان يراه «أبوسماح»، وهكذا كان يراه الجميع، قال بصوتٍ مخنوق: «إزاي آكل من العيش اللي كان تمنه روح بني آدم؟».

للإطلاع على النص الأصلي
69
0
مشاركة
حفظ

آخر الأخبار

أحدث الأخبار

    أحدث الفيديوهات