مصراوي

2025-03-03 19:15

متابعة
الأقنعة المراوغة في «التفكير بالسرد»

في قراءة تأويلية ونقدية رصينة، تُقدِّم الباحثة د.مروة مختار في كتابها «التفكير بالسرد: الهوية.. الثورة.. النسوية» (دار المحرر، 2025) رؤية واضحة تتعلق بالتفكير وإعمال العقل لدى قراءة الكتب والنصوص، بحثًا عن التحولات الكبرى والأقنعة المراوغة.

في مقدمة كتابها، تتحدَّث الكاتبة باحترام وتوقير عن «فعل القراءة الذي يفترض أن الكلمات تبعثرنا وتعيد تشكيلنا من جديد ولا ترص رصًا كفعل آلي بلا روح، روح الكلمة التي تستحثنا دومًا للتفكير فيها فنعيد القراءة، مرة تلو الأخرى لنسائل أنفسنا عن تجدد تلقينا لها مع كل قراءة، عن الأفكار التي تحملها داخل السرد، فلا سرد دون قضايا تشغل القارئ بالتفكير وإعمال العقل في أبسط الأفكار الإنسانية والفكرية وأعقدها، ومحاولة كشفها داخل بنية السرد نوع من الحفر الأركيولوجي في طبقات العمل الإبداعي مع القراءات المتتالية له للوصول إلى بنيته العميقة ثم العودة تدريجًا إلى البناء في محاولة أخرى متجددة للفهم» (ص 9).

وعبر كتاب صغير الحجم (108 صفحات) تقودنا الباحثة إلى عالم القراءات المتتالية للوصول إلى البنية العميقة للسرد في أعمال إبداعية منتقاة. يتضمنُ الكتاب ثلاثة فصول؛ الفصل الأولُ خاص بالحوارِ مع روايةِ «بساتين البصرة» للكاتبة منصورة عز الدين، والفصل الثاني مع رواية «آذار الأخير» للكاتبة أمل إسماعيل، والفصل الثالث والأخير مع المجموعة القصصية «الحُور العين تُفصّص البسلة» للكاتبة صفاء النجار.

ترى د.مروة مختار أن «التفكير بالسّردِ قرينُ عدمِ الاستسهالِ في الكتابة الإبداعية، التفكير بالسردِ محبةٌ من المُبدع للقارئ ومشاركة له في قضاياه الفكريّة والإنسانية بعيدًا عن صخبِ الصحافةِ وخصومةِ النقاشِ على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي. التفكير بالسرد أخذٌ بيد القارئ في أمومةٍ حانيةٍ ويقظة دفينة غير معلنة إلى شواطئ شتّى تُحيط بنا، قد تسحبُنا إلى داخلها دون انتباهٍ منا، فيأتي الإبداع ليوقِظ فينا الفكر بالنظر في قضايانا المتشابكة في حقيقتها، وإن حسبناها على غيرِ عمدٍ منّا أنها منفصلة» (ص 13-14).

في رواية «بساتين البصرة» نجد أننا على موعد مع قضايا قديمة حديثة؛ بمعنى أننا أمام قضايا فكرية وإنسانية وسياسية طرحها متجدد، وأمام خطوط وأصوات سردية تحمل هذه القضايا دون كلل أو فتور أو استسهال.

تتجلى قدرة منصورة عز الدين في تمرير هذا كله على عمقه داخل إطار سردي إيقاعه سريع في القراءة الأولى، تتكشف أبعاده بالقراءات المتتالية بعد أن تعطيك مفاتيحها بشكلٍ متدرج. فالرواية في بدايتها حُمِلت بتكثيف لخطوطها السردية فخلقت حالة من التشابك بين الحاضر والماضي عبر شخصيات متعددة هنا وهناك.

هذا التشابك تراه د.مروة مختار استنفارًا لقوى المتلقي الخفية أو الساكنة خلف حالة الركون والدعة التي قد تستدعيها فكرة الحكي في بعض أوقاتها إلى حالة من التفكير وإثارة التساؤل، تغزله منصورة عز الدين بأسلوبٍ متوازن مع الحفاظ على متعة تلقي الرواية بوصفها فنًا، حتى خلقت من المتعة الفنية المتوالدة عنها والمتزامنة مع قراءتها استمرارية لشغف فك شفراتها وتشابك خيوطها السردية (ص 14). واستطاعت منصورة الحفاظ على تلك الحالة بجدية من بداية الرواية حتى نهايتها. واختارت الروائية لها قالبًا حداثيًا ينتمي للأزمنة السائلة التي عُرفت في عصور الحداثة وما بعدها. «فهي تعمل على إذابة مستمرة وتفكيكًا متواصلًا للمراكز الصلبة لصالح اللعب الحُر» (زيغمونت باومان، الأزمنة السائلة، ترجمة: حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت، 2017، ص 8). ويمكننا اعتبار قولها «الزمن نهر سيال والمكان وهم، مكاننا الحقيقي موطن أرواحنا» الجملة الرئيسية في هذه الرواية، أي مفتاح بناء الرواية من حيث الزمان والمكان والشخصيات.

تقول د.مروة مختار إن منصورة عز الدين كثفت الأحلام في الفصلين الأول والثاني، ليشارك الحلم في بماء الرواية وفي تشظيها في الوقت نفسه، ويتغلغل داخل المنمنمات التي تشكلها بين الحاضر والماضي، بين البصرة والقاهرة فتتسع دوائر التأويل. واختلاط واقع الرواية أو حاضرها بالماضي أو بعصور سابقة في أماكن أخرى بتقنية الحلم ساهم في تشكيل بنية الرواية تشظيًا وتأويلًا، ففي الأولى فتح مسارات للحاضر والماضي تسهل حركة وعي المتلقي في ديمومة بينية عبر صفحاتها، ورموز تلك الأحلام المتتابعة والمنتشرة تساهم في فك شفرات الرواية اللا نهائية.

في رواية «آذار الأخير»، تعمل الناقدة د.مروة مختار على تقسيم هذه الرواية إلى ثلاثة أقسام: يشغل القسم الأول 96 صفحة ويبدو الزمن فيها بطيئًا جدًا؛ إذ تستدعي الروائية أمل إسماعيل القارئ ليعيش تفصيلًا أجواء ماضي أبطال روايتها عن طريق تقنية «الفلاش باك»، وما تلبث أن تعود إلى الحاضر. انعكس ذلك بشكلٍ مباشر على أسلوب الكاتبة؛ فعلى سبيل المثال تكرر استخدام الفعل كان ومشتقاته في كثيرٍ من الصفحات.

في القسم الثاني من رواية «آذار الأخير» الذي يمتد من الفصل الثامن حتى الفصل الرابع عشر، نتابع تطورات شخصيتي «عليا» و«أسعد» ورحلة البحث عن الأمان. تقف «عليا» حائرة بين خطين -وهي اللاجئة- وهما أن تنظر إلى المستقبل/إنسان المنهج، أو أن ترتد إلى الماضي لتصبح «إنسان الذاكرة». في القسم الثالث من الرواية الذي يبدأ من الفصل الخامس عشر حتى الفصل الثامن عشر، تبحث «عليا» عن الأمان فلا تجده، بل تكاد تفقد الأمان المادي الذي وفره لها «أسعد».

ترى د.مروة مختار أن الروائية أمل إسماعيل حاولت نقل روح عدم الاستقرار والترحال بسبب ظروف الحرب عبر تقنيات متعددة منها ثيمة السيناريو؛ إذ تعمد الروائية إلى تقسيم مشاهد الرواية كما لو أنها إسكريبت سينمائي، حتى تبدو لغة الكاميرا مصاحبة للرواية صوتًا وصورة في مواضع متباينة (ص 61). وفي مواضع كثيرة اختارت الأغنية المصاحبة للمشهد من التراث السوري أو الأغنيات المرتبطة بذكريات مؤلمة أو جميلة معها وأسرتها في وطنها الأم. الأغاني شريكة الرحلة في الرواية المذكورة وصناعة المشهد، فالروائية ترسم موسيقى المشهد بعدد من الأغاني المتنوعة وكأنها تكتب له سيناريو (ص 63).

وتتناول مؤلفة الكتاب بالنقد المجموعة القصصية «الحُور العين تُفصّص البسلة» للكاتبة صفاء النجار، فتقول في فصلها الثالث الذي يحمل عنوان «الخطاب النسوي ومراوغة الأقنعة: المقصدية وآفاق التأويل» إن هذه المجموعة القصصية تنتمي بجدارة إلى الخطاب النسوي، فهي معنية بالمرأة من البداية إلى النهاية، وقد تبدو في القراءة الأولى أنها قصص منفصلة، لكنها متتالية بشكلٍ دوري وغير دوري، «بمعنى أن همًا عامًا يشغلها هو ركيزة القصص كلها، يعرب عن نفسه صراحة أحيانًا بين كل قصتين متتاليتين أو متباعدتين، ويعرب عن نفسه بشكلٍ خفي أيضًا» (ص 82).

تضيف الناقدة د.مروة مختار أن صفاء النجار اعتمدت في مجموعتها القصصية على تقنيات متنوعة للتعبير عن فكرتها، منها: المفارقة بين الواقع والمأمول أو المستحق، والعالم الغرائبي أو الفانتازي، وبنية الحلم المتكررة، والمونولوج الداخلي، والاستعانة بالفنون التشكيلية في الكتابة كالنحت، واستخدام فكرة اللقطة السينمائية أو الكليب السريع لرسم المشهد الواقعي أو الفانتازي.

وهذه التقنيات تناوبت الظهور في القصة الواحدة فلم تقتصر على تقنية بعينها، وإن طغى استخدام واحدة على أخرى فيها وفق الرؤية الفنية لصفاء النجار لتشكيل المجموعة وقصصها.

وترى مؤلفة الكتاب أن الرجل في المجموعة القصصية «الحُور العين تُفصّص البسلة» يظهر كشخصية ذات تأثير سلبي على مسار المرأة في الحياة العامة أو الخاصة، وبوصفه شخصية إيجابية ظهر كرة واحدة فقط في الواقع وبشكل عابر. الرجل داخل عالم المجموعة القصصية هو: المدرس المتحرش، والمدير المتحرش، والزوج الفاقد للتواصل الإنساني، والزوج المريض ونموذج الأب الحاد الجاف والشرطي المستغل. ولم يظهر الرجل في المجموعة القصصية بوصفه شخصية إيجابية إلا مرة واحدة في الواقع وأخرى متخيلة في عالم فانتازي.

وتضيف مؤلفة الكتاب أن إحساس الوحدة وعدم مبالاة الزوج بالزوجة وانشغاله بالأنا متغلغل في المجموعة القصصية بشكلٍ لافت للنظر، وكأنها ألمٌ يتسرب من الكاتبة عبرقصص المجموعة معبِّرًا عن إحساس متكرر لدى شخصيات المجموعة. وتشير د.مروة مختار إلى أن انشغال بطلات المجموعة بالواقع والمأمول والمستحق استدعى بنية المونولوج الداخلي، فالرغبات المكبوتة والآراء المقموعة لم تجد مكانًا لها في النور وظلت حبيسة نفوس أصحابها لدواعٍ اجتماعية متعلقة بالأطر الاجتماعي الخاصة بالمرأة والعادات الموروثة (ص 104).

الأخبار المتعلقة

  • تفكيك «الصعيدي»

  • توفيق الدقن.. "ملك الإفيهات"

  • ترددٌ في الصواب وسرعةٌ في الخطأ!

  • تاريخ القتلة مع الركض!

للإطلاع على النص الأصلي
34
0
مشاركة
حفظ

آخر الأخبار

أحدث الأخبار

    أحدث الفيديوهات