10 رجال وسيدة كادوا أن يُحتجزوا بين ألسنة اللهب، و15 آخرون من أبناء وبنات وأحفاد خالد عامر نجوا بأعجوبة من موت محقق.. لحظات كانت كافية ليكتب الله لهم عمرًا جديدًا، لكن أثر الحريق لم يقتصر على الجدران؛ بل امتد إلى القلوب ليفتش فيها عن الذكريات، حيث كل شىء كان يضفى دفئًا على هذا البيت.
«15 طفلًا وسط النيران».. كيف تحول منزل المعتمدية إلى جحيم؟
على ناصية الشارع، أمام العقار المحترق بمنطقة المعتمدية في كرداسة بمحافظة الجيزة، وقف خالد عامر- مالك المنزل- وسط أكوام الرماد وبقايا الأثاث المتفحم، عيناه مثقلتان بالذهول، كأن ما حدث لم يكن حريقًا، بل كابوسًا ممتدًا حتى بعد الاستيقاظ، وبين يديه كان يمسك قطعة خشب متفحمة، يقلبها في حسرة، فربما كانت يومًا ما جزءًا من طاولة الإفطار الرمضانى التي تجمعت حولها عائلته أمس الأول قبل ساعات فقط من اندلاع الكارثة.
«لولا ستر ربنا كنّا بقينا تحت التراب»، همس وهو ينظر إلى الشرفة المحروقة، حيث لم يتبقَ سوى قطع الحديد الذائبة وأثر الدخان الأسود الذي يظهر كندبة على جدران المنزل، وفى يوم الحريق، كان كل شىء يمضى كما خُطط له، حيث شهر رمضان، والمائدة ممتدة، تزينها الأطباق العامرة بالطعام، وبناته المتزوجات جئن مع أزواجهن وأطفالهن، حتى أولاده الرجال جاءوا بعائلاتهم الصغيرة، 15 حفيدًا كانوا يركضون بين الغرف، أصوات ضحكاتهم تتردد بين الجدران، ومشاعر الدفء تعانق الجميع.. و«كأنها كانت لحظات الوداع»، هكذا وصف «خالد» ما حدث، وصوته يحمل غصة مريرة.
مع أذان العصر، تسلل صوت المطر عبر النافذة، قطرات الماء ارتطمت بحديد البلكونة، حيث كانت الملابس منشورة على الحبال، ومع ازدياد المطر أضاءت الأسلاك الكهربائية الممتدة في الشارع بوميض خاطف، لم يكن هناك وقت للتفكير أو الاستيعاب، ففى اللحظة التالية كانت النيران تتسلق الجدران كوحش جائع.
«أحفادى كانوا أول من صرخوا»، أضاف «خالد»، وعيناه تلمعان وكأنه يستعيد لحظات الرعب. الصوت الأول كان لفتاة صغيرة، ربما لم تتجاوز الـ5 سنوات، شهقت بعنف وهى تشير إلى اللهب المتصاعد من البلكونة، وفى ثوانٍ معدودة ملأ الصراخ المنزل، الركض كان بلا اتجاه، الأطفال يتشبثون بأى يد تمتد إليهم، والنساء يصرخن بينما الرجال يحاولون إخلاء المكان، يستكمل: «وقفت في نص الصالة مش عارف أروح فين، النار كانت سريعة، حسيت كأن البيت بيولع مرة واحدة.. السقف بدأ ينفث الدخان، والحرارة تصاعدت حتى أصبح التنفس صعبًا»، لحظة عجز لم يعشها من قبل، وهو رجل اعتاد أن يكون السند لعائلته، لكنه في تلك اللحظة شعر وكأن قوته تتبدد أمام ألسنة اللهب التي لا ترحم.
«كل شئ أصبح رمادًا»
«المنظر اللى قدامى كان مرعب»، قالها «خالد» وهو يمرر يده على جبينه، كأنه لايزال يمسح العرق البارد الذي غطى وجهه في تلك اللحظة، فعندما اندفعت النيران إلى الداخل أدرك أنه لا خيار سوى الخروج بأى طريقة، كل طفل تم حمله على عجل، كل يد امتدت لتسحب آخر، وكل لحظة تأخير كانت تعنى اقتراب الموت أكثر، «مكنش في وقت نفكر، بس كل اللى كنت شايفه قدامى إن لازم نطلع، لازم كل العيال يعيشوا»، هكذا يستعيد مشاهد النار أمام عينيه.
شباب المنطقة رأوا ألسنة اللهب تتراقص خلف زجاج النوافذ، فاندفعوا بلا تردد، تسلقوا واجهة العقار، أمسكوا بالحواف الحديدية، وبدأوا في سحب الأطفال من النافذة قبل أن يصل اللهب إليهم. كان «خالد» يراقب ذلك وهو في الداخل، يدعو ألا يتأخر أحد في إنقاذهم، وبعد دقائق بدت وكأنها دهر، خرج الجميع، لكن «خالد» لم يشعر بالراحة، وقف عند باب المنزل، ينظر إلى المكان الذي كان بيتًا وتحول إلى جحيم، يردد: «كل شىء راح، الشقة اللى بنيتها بالدم والعرق، الدفايات، العفش، حتى هدوم العيال، كله بقى رماد».
من الخارج، كانت النيران تواصل التهامها.. الجدران بدأت تتآكل، الطوب الأحمر ظهر واضحًا بعدما احترقت الطبقة الأسمنتية.. بعض الأجزاء منه انهارت، تساقطت قطع الخرسانة على الرصيف، كان الدخان لايزال يتصاعد، يحكى قصة الرماد والفقدان، يصف مالك العقار المنكوب الحال.
في الساعات التالية، كان «خالد» وأبناؤه يجمعون ما تبقى، كل قطعة متفحمة تم سحبها إلى الشارع، كل لوح خشبى محترق تم وضعه في كومة، كأنهم يشيعون بقايا حياتهم القديمة، بينما وقف المارة يراقبون المشهد، البعض تحسر، والبعض يتمتم بالدعاء.. «شايفين البلكونة؟ كانت مليانة غسيل، والمطر خلاها توصل المياه لسلك كهربائى، النار مش محتاجة أكتر من شرارة علشان تبدأ».
هل تسبب ماس كهربائي في الحريق؟
الشائعات بدأت تنتشر، البعض قال إنها ألعاب نارية، وآخرون ادعوا أن الأطفال هم من تسببوا في الحريق. «خالد» لم يهتم للحديث، كل ما كان يشغله أنه فقد بيته، ولا يعرف كيف سيبدأ من جديد، وفى الليل، عاد إلى المكان، ووقف أمام الجدران السوداء التي كانت بالأمس تحمل بين طياتها أصوات ضحكات أحفاده.. الآن، لا شىء سوى الصمت ورائحة الحريق العالقة في الهواء، «الإفطار اللى كان المفروض يكون لحظة تجمع وفرحة، بقى ذكرى سوداء، هفضل فاكرها طول حياتى»، يقول في أسى، إذ يرفع رأسه إلى الشرفة: «لم يبقَ شىء سوى سواد الحريق، والذكريات التي تحولت إلى رماد.. ربنا كتب لنا عمر جديد، بس الحريق اللى جوه قلبى مش هينطفى أبدًا»، يتمم بها في أثناء بكائه.
في اليوم التالي، وصلت النيابة العامة إلى موقع الحادث، وبدأت فرق المعمل الجنائى بفحص الشقة المحترقة، رجال البحث الجنائى طافوا بالمكان، عيونهم تلتقط كل تفصيلة، وبقايا الأسلاك المحترقة تُجمع بعناية في أكياس الأدلة، لترجح المعاينة الأولية أن ماسًا كهربائيًا هو السبب الرئيسى للحريق.
وأمرت النيابة بانتداب خبراء الأدلة الجنائية لإعداد تقرير مفصل عن أسباب الحريق، كما استدعت مالك العقار لأخذ إفادته، وتم تحرير محضر رسمى، وسجلت أقوال خالد عامر وأسرته، الذين مازالت وجوههم تحمل آثار الصدمة.. «الحريق قضى على كل شىء، لكن العوض على الله»، قالها «خالد»، وهو يوقع على محضر التحقيق، قبل أن يلقى نظرة متحسرة على بيته المحترق، وكأنه يودعه للمرّة الأخيرة.