ما من كتاب كان له هذا السحر الطاغي على الفن العالمي كما كان لـ . تظل هذه الحكايات مرآةً عاكسة للخيال الشرقي، تضيف إلى نفسها مع الزمن أبعادًا جديدة من الفهم والتأويل، وتظل مصدر إلهام لا ينضب للكتّاب والمبدعين في الشرق والغرب على حد سواء. فهي ليست مجرد قصص شعبية، بل نصٌّ يمتد تأثيره إلى الفنون المختلفة، من الرواية إلى المسرح، ومن السينما إلى الموسيقى، بل حتى إلى نظريات النقد الحديثة.
في الأدب العربي، أثّرت الليالي العربية على روائيين كبار مثل نجيب محفوظ، الذي استلهم تقنيات السرد في روايته "ليالي ألف ليلة"، وتوفيق الحكيم الذي قدم قراءة فلسفية لشخصياتها في مسرحية "شهرزاد". أما طه حسين فقد تفاعل مع أجوائها السحرية في "القصر المسحور"، بينما استلهم جمال الغيطاني بنيتها السردية في أعماله، وأبرزها "هاتف المغيب".
لم تكن الدراما بعيدة عن هذا التأثير، حيث كانت مصر أول من نقل ألف ليلة وليلة إلى الشاشة، بدايةً من السينما بفيلم "ألف ليلة وليلة" عام 1941، بطولة علي الكسار وعقيلة راتب، وهو ما فتح الباب أمام معالجات سينمائية أخرى، من بينها الفيلم الفرنسي-الإيطالي الذي حمل نفس الاسم عام 1974. لكن التأثير الأوسع كان على شاشة التلفزيون، حيث أصبحت حكايات "الليالي العربية" جزءًا أصيلًا من دراما رمضان لعقود، وكان أبرزها المسلسل الشهير عام 1984، بطولة حسين فهمي ونجلاء فتحي. ومع ذلك، وعلى الرغم من الشعبية الواسعة التي حظيت بها هذه الأعمال، توقّف الإنتاج التلفزيوني لـ "ألف ليلة وليلة" لسنوات طويلة، وكأنها فقدت بريقها أمام تحولات الدراما الحديثة.
ومع ذلك، فإن تعامل الثقافة العربية مع ألف ليلة وليلة كان محاطًا دومًا بمحاذير أخلاقية، حالت دون استثمارها الفني كما فعلت الثقافات الغربية، حيث رأى المستشرقون فيها كنزًا حكائيًا يفيض بالصور الساحرة عن الشرق، من مغامرات السندباد إلى سحر علاء الدين، مرورًا بمملكة شهرزاد الغامضة.
ومع عرض الجزء الثاني من المصري تأليف أنور عبد المغيث في رمضان 2025، تتجدد التساؤلات حول الحاجة إلى إعادة تقديم ألف ليلة وليلة مرة أخرى، رغم المعالجات الدرامية العديدة التي قُدمت من قبل. هل ما زال لهذه القصص سحرها في العصر الحديث؟ وهل يمكن أن تستمر في جذب الجمهور بنفس القوة التي جذبت بها الأجيال السابقة؟
واقع الدراما العربية يشير إلى أن العودة إلى ألف ليلة وليلة ليست مجرد استعادة للتراث، بل محاولة لإعادة قراءته بعيون معاصرة. فقد نجح مسلسل "جودر المصري" في تقديم صورة البطل الشعبي الذي يتحدى قوى السحر والقدر، وهو ما يعكس رغبة المشاهد العربي في رؤية أبطال يشبهونه، يعبرون عن همومه وأحلامه، ولكن في قالب فانتازي مشوّق. فهل يمكن أن تكون هذه هي الرؤية المطلوبة لتقديم الليالي العربية في العصر الحديث؟ أن تكون الحكايات إطارًا لمناقشة قضايا معاصرة، مثل الصراع بين القوة والضعف، والفساد والعدالة، والخرافة والعقل؟
وإذا كان نجاح "جودر المصري" قد أثبت أن الليالي العربية ما زالت تمتلك القدرة على الإبهار، فإن هناك شخصيات أخرى تستحق إعادة الاكتشاف على غرار جودر. حكايات مثل "حسن البصري"، و"عبد الله البري وعبد الله البحري"، و"السندباد البحري"، تحمل في طياتها عناصر ملحمية يمكن إعادة تقديمها بأساليب حديثة، بحيث لا تظل مجرد قصص تراثية، بل تصبح مرآة لقضايا إنسانية حية، كما فعلت هوليوود مع الأساطير الغربية.
في النهاية، يبقى التحدي الحقيقي في إعادة إحياء ألف ليلة وليلة لا يكمن فقط في تقديمها كقصص فانتازية، بل في إعادة تأويلها لتناسب روح العصر، مع الاحتفاظ بسحرها الأزلي الذي جعلها واحدة من أعظم ما أبدعته المخيلة البشرية.