تحت عنوان رواية "لا حيلة مع الموت في الخريف" (منشورات إبييدي 2025)، يقدِّم الروائي هشام شعبان تجربة مغايرة ومتفردة.
ثمة محاولة في الرواية لتأسيس لغةٍ عمادُها معجم الحياة اليومية ومفردات وتراكيب فيها من البساطة ما فيها من الحذاقة والمهارة. فرادة لا تقتصر على المنحى اللغوي فقط بل تتعداه إلى النسيج الروائي نفسه ومادته، فإذا السرد حقلُ اختبار للمخيلة وسِحرها وسلسلة من المفاجآت والصور الطريفة والأخيلة والأوهام والظلال.
في هذا العمل، يصر هشام شعبان على التجدد خلال مساره الأدبي، ولكن طبعًا من ضمن عالمه ومناخه اللذين تميز بهما، وعبر تقنيته الحادة والمرهفة التي وسمته.
تدور أحداث الرواية في الـ24 ساعة الأخيرة من حياة البطلة في آخر ليالي الخريف، وتتمحور حول سيدة أربعينية لم تتزوج، توفيت والدتها وهي طفلة صغيرة، وتعيش رفقة والدها "أنور سليمان" الذي "الوقت يداهمه ويداهمها معه" (ص 23)، حيث أصيب بالألزهايمر في سن الخمسين. أبٌ "عيناه مفتوحتان، لكنهما مثل حفرة جف منها ماء الحياة" (ص 54).
في لحظة خوف أقرب إلى التداعي تسأل نفسها: "لماذا أحكم على نفسي بالجحيم؟ إن كان ثمة عدالة كما يقولون فإن ذلك العالم الذي يبدأ بموتي هو مكافأتي على صبري لما رحلتْ أمي إلى غير رجعة" (ص 44).
إنها "لم تعد موقنة أهي المحظوظة حقًا كما قالت صديقتها أم العكس.. أنجت بعنوستها من حياةٍ مليئة بالملل والضيق والمشاحنات مع زوجها أم أن المشاحنات الزوجية تلك هي سر البهجة في الحياة؟" (ص 28).
"تعرف هيام أنها لم ولن تتزوج. هذا في الواقع، أما في خيالها الواسع فقد كانت متزوجة" (ص 29). البطلة هنا "كانت تنظر لحياتها على أنها صحراء بلا نشوة، فلا يضاهي أي إشباع ذاتي وهج الرجل وأنفاسه" (ص 30). في موضع آخر ترثي نفسها قائلة: "أنا هكذا! يراني الرجال أنثى من وراء لوح زجاجي اكتسى بالسخام" (ص 35).
البطء في الأحداث متعمد لتكثيف الشعور بالوحدة لدى بطلة العمل الروائي. عبر حضوره الكثيف، أتاح الوصف للكاتب نقل ملامح وتفاصيل الممكن، مما سمح بإبطاء السرد وإكسابه سمة المشهدية، كما كان أداته لتجسيد معاناة الشخوص وما تعيشه من بؤس وألم، كما جسَّد عبره أيضًا المشاعر والانفعالات وكل ما يحدث بعيدًا في أغوار النفس ولا يخضع لقوانين الإدراك ولا يقع في حيز الرؤية.
أما المسرح الرئيسي للرواية فهو "شقة تضم أربع حجرات، اثنتان منها مهجورتان وهما أشبه بغرف "الكراكيب"، لا يُفتحان نهائيًا ولا يدخلهما الهواء" (ص 21). حتى هذا المسكن الكائن في منطقة وسط البلد مهددٌ بأن تفقده، في ظل سعي مالك العقار "حسان" وابنه "مازن" بالترغيب والترهيب إلى طردها منه بدعوى أنها مؤجرة إيجارًا قديمًا.
الداخل ضيق، لكن العالم في الخارج فسيح ورحب. "قالت لنفسها: "كيف أشعر بكل هذا الملل بينما لا توجد أبدًا لحظة مملة في وسط القاهرة؟" (ص 81).
تدور الرواية في إطار نفسي واجتماعي، وتعكس المخاوف والمشكلات النفسية التي تعانيها البطلة نتيجة ضياع أحلامها وشعورها بأن حياتها غير مكتملة لغياب الزوج والأطفال.
يسعى هشام شعبان في روايته إلى إبراز الأثر النفسي الكبير على المرأة الوحيدة في مجتمع شرقي يراها أفراده مجرد فريسة تلك الأقدار التي تقود البطلة "هيام" إلى ارتكاب جرائم قتل لم تتخيل يومًا أن تكون قادرة على فعلها.
أحاسيس تُجسِّدها افتتاحية الرواية، "حين أبعدت هيام كأس الشراب المسموم عن شفتيها، وأسندت ظهرها إلى الخلف، راحت أحداث الأربع وعشرين ساعة الأخيرة من حياتها تدور أمام عينيها كما يدور شريط الفيلم السينمائي حول بكَّرة العرض. في الليلة السابقة، بدت سماء الخريف شاحبة كالعادة، لم تعرف هيام كم من الوقت ظلت قابعة في مكانها دون حراك، تساقطت عليها أوراق شجرة الصفصاف اليابسة، ورقة تلو الأخرى، حتى افترشت أرضية الشرفة بسجادة هشة وصفراء.. سجادة يابسة كقلبها الذي لم يرتو يومًا بإكسير الحُب" (ص 5).
بتقنية استعادة الماضي، تتدفق الأحداث "الذكريات التي تلاحقها ككلب بوليسي مدرب" (ص 8):
"ببطء مدّت هيام قدميها نحو المياه بعد أن ركدت، سرت القشعريرة في جسدها، تذكرت يوم أن سافرت إلى الإسكندرية رفقة أبيها وأمها. كانت طفلة صغيرة، تزين شعرها بشرائط ملونة وترتدي زيًا خاصًا بالسباحة وتعدو على الشاطئ وهي تضع نظارة شمس صغيرة، تعدو نحو البحر، ثم ما إن تغمرها الموجة حتى تهرع بعيدًا وضحكاتها تتألق في الفضاء. كان أبوها ممددًا على مقعده ويقرأ جريدته المفضلة، فيما أمها على مقعد آخر إلى جواره لكنها لا تقرأ شيئًا، فقط تحدق في الأركان، حين تنظر إليها تشعر أنها تراقبك، لكن الحقيقة أنها لم تكن تراقب أحدًا، حتى ابنتها الصغيرة التي ارتفع صوتها المبهج فجذب المصطافين" (ص 8).
في موضع آخر "تذكرت هيام عندما نُقِلَ أبوها للمستشفى: في طريقها إلى المستشفى انهمرت دموعها فتطلعت إليها أنظار راكبي الحافلة، واقتربت منها امرأة عجوز لتواسيها دون أن تعلم سر بكائها" (ص 42). في موقفٍ ثالث "تذكرت لما كانت طالبة مراهقة في الثانوية العامة، ترتدي القميص الأبيض والتنورة الزرقاء والجوارب البيضاء والحذاء الأسود وتجعل من شعرها معقوصًا خلف رأسها وتحتضن حقيبتها أمام صدرها، لقد كان لها ثديٌ نافر ومشدود، والغريب أنها كانت تخجل من ذلك" (ص 37). وهي "تتذكر سخرية زميلاتها من تجهمها ونفورها من الأولاد، وسخطها وحرجها حين يتحدَّثون أمامها عما فعلته إحداهن مع حبيبها خلف فناء المدرسة" (ص 37).
بأسلوب السارد العليم، تُحدّث "هيام" نفسها:
"إن أسوأ ما يمكن أن يحدث للإنسان هو أن يصبح عالة على أحدهم.. أبي ربما لا يعرفني.. ربما نسيني.. ربما يظنني ممرضة أو مرافقة له بأجر. ربما يتذكرني في لحظة وينساني في اللحظة التي تليها، لكنه قطعًا لا ينسى أيام شبابه، أيام قوته وعنفوانه، أيام المرح والحياة، يا لذاكرة الإنسان العجيبة" (ص 17).
في ظل هذه الضغوط النفسية الكبيرة، ترتكب "هيام" أولى جرائم القتل. أما الضحية فلم يكن سوى الأب نفسه!
"غاص قلبها بين ضلوعها وهي تجلس على الشاطئ وتفكر في إغراق أبيها، راحت تراقبه وهو يجلس على الرمال ويمد قدميه إلى المياه. رأته رجلًا أضناه الكبر والمرض، أمسك اليأس بتلابيب روحه.
"أطبقت جفنيها وضغطت عليهما بأصابعها لحظات قبل أن تنهض وتتجه نحوه:
" - هيا نسبح يا أبي قبل أن يحل الليل.
"قادته إلى الداخل، رويدًا رويدًا حتى ابتعدا عن الشاطئ، وصلا إلى عمق مناسب لا يطفو من أبيها إلا رأسه، نظرت في عينيه، ازدردت ريقها وعضت على لسانها وهي تدفع بكلتا يديها رأسه إلى الأعماق، كانت تبكي وتنهنه والدموع المالحة تنحدر من عينيها لتذوب في البحر فتزيد ملوحته.
"كان جزءًا من إحساس هيام وهي تُغرق أباها، هو نقمتها عليه لأنه نسيها بسبب مرضه. كانت تقول كيف له أن ينساها هي تحديدًا رغم تضحيتها بحياتها من أجله، ثم ما تلبث أن تعود لرشدها أو ليأسها وهي تردد بأن المرض عقابٌ لعين لا حيلة لأبيها أمامه" (ص 122).
بعد هذه الجريمة البشعة التي تبررها لنفسها بأنها من قبيل "القتل الرحيم" (ص 137)، "وقفت في عرض البحر مطرقة تنظر إلى يديها التي أصابها ارتعاشٌ مفاجئ كأنها محموم يرتجف" (ص 123).
"أين ذهبت الجثة يا تُرى؟ هل غاصت إلى الأعماق بسرعة؟ هل كانت تتوق للغرق، لأن يبتلعها البحر؟" (ص 123).
في طريق العودة من الإسكندرية، موقع الجريمة، راحت كل الأحداث تلح على عقل "هيام":
"آه، هل تركتُ أبي ليبتلعه البحر الموحش، لا إن البحر الموحش فقط للجبناء وأبي ليس جبانًا، موحش فقط لمن لا يقدِّرون قيمة الحُب وأبي كان عاشقًا.. أبي ليس وحيدًا، لقد ابتلع البحر قبله الآلاف والآلاف، من بحارة وقراصنة وعشاق وأناس عاديين لم يفكروا يومًا في أن تبتلعهم مياهه" (ص 129).
لكن القتل يجلب المزيد من الجرائم المماثلة. الضحية التالية كان سائق سيارة الأجرة الذي أقلها من القاهرة إلى الإسكندرية وبالعكس. دعته إلى المنزل لتناول العصير، ثم دست له السم في المشروب البارد. لم تكن الضحية الثالثة إلا "مازن" نجل مالك العقار، الذي استدرجته "هيام" إلى الشقة ودست له السم في الطعام، ووضعت من السم لنفسها في كأس العصير.
"لم تمر دقائق حتى بدأ السم يحتل كل خلايا مازن، امتقع وجهه وارتعش من فرط الانفعال.
"أنزلت هيام كأس الشراب المسموم عن شفتيها، مالت بجسدها للوراء، استسلمت لسكرات الموت، التي تداهم أحشاءها. كانت هادئة، هادئة للغاية. راحت تراقب مازن وهو يتلوى من فرط الألم. لا من فرط المفاجأة. من فرط الصاعقة بأن الموت سيأتيه بعد لحظات إن لم يكن ماثلًا أمام وجهه في تلك اللحظة" (ص 157).
كانت قد وضعت قطرات قليلة من السم في كأس شرابها؛ "لقد أرادت أن تحيا لحظة موته، أن يكون وجهها آخر وجهٍ يراه" (ص 157-158).
"لا حيلة مع الموت في الخريف" عملٌ نفسي بامتياز، يضيف إلى رصيد الروائي هشام شعبان، الذي أصدر من قبل روايات ”3 ورابعهم كلبهم"، و"الإفطار الأخير" و"سجن العقرب" ومتتالية قصصية بعنوان “ثور هائج” ومسرحية “أيامًا معدودات في الجنة".
-
بين "الاتحادية" و"الپاستور"
-
فك شفرات المجتمع الإيراني
-
الأقنعة المراوغة في «التفكير بالسرد»
-
تفكيك «الصعيدي»