لم يكن «أحمد» بحاجة إلى الكثير، فقط ذراع بلايستيشن يعمل بشكل جيد، شيء بسيط كأي صبي في السابعة عشرة من عمره. لكنه لم يكن كأي صبي، لم يقضِ وقته في اللعب، بل بين المدرسة والعمل، يقف في محل السباكة ساعات طويلة، يساعد والده في تحمل نفقات البيت، وعندما فكر في شراء ذراع بلايستيشن، كان ثمنه من عرق الجبين، لم يكن يعلم أن هذه القطعة الصغيرة ستسحبه إلى مواجهة لم يعد منها حيًا.
«ابني آخر العنقود…» تقولها والدته، تضع يديها على حجرها، تنظر إلى الأرض كأنها تبحث عن صوته بين البلاط، كان لديها 3 أبناء، لكنه كان الأصغر، الأحن، الأكثر قربًا إليها. «كان بيشتغل علشان يساعدنا، مش علشان يموت كده»، تنطقها بصوت بالكاد يسمع، وكأنها لم تستوعب بعد أن ابنها الذي خرج ليعيد ذراعًا بلايستيشن لن يعود أبدًا.
مساءٌ لم يعد منه
في ذلك اليوم، عاد «أحمد» إلى البيت بعد ساعات طويلة في المحل، تناول طعامه على عجل، ثم أخبر والدته أنه سيذهب إلى مكتبة «حسام» ليعيد الذراع، فقد اكتشف أنه معيب، لم تتوقع أن يكون هذا آخر شيء يخبرها به.
عبدالمنعم حسين، صاحب عربة السمين التي يقف بها على ناصية الشارع، كان شاهدًا على كل شيء. «أحمد كان شغال في محل سباكة قريب من عربيتي، وحسام مأجر لي المحل اللي بحط فيه العربية، يعني كنت شايف كل حاجة»، يقول وهو يمسح يديه في مئزره المتسخ، وكأنه يحاول أن يمسح عن ذاكرته المشهد الذي لن ينساه.
يحكي «عبدالمنعم» كيف دخل صاحب الـ17 عامًا إلى المحل وقال لـ«حسام»، صاحب محل الخردوات، إنه يريد استعادة نقوده، فرفض الأخير وأخبره أن البضاعة لا تُرد، ارتفع صوتهما قليلًا، ثم هدأ كل شيء، ظن الرجل أن الأمر انتهى عند هذا الحد، لكنه لم يكن يعلم أن العاصفة لم تهدأ بعد، بل كانت في انتظار اللحظة المناسبة للانفجار.
«في الأول، أحمد خَد البلايستيشن علشان يجربه، ورجع بعدها وقال لحسام إنه مش عايز يشتريه علشان سعره غالي، فحسام وافق، لكن لما استلم الجهاز لقى الدراع ناقص منه زرار، طلب دراع جديد بدل اللي اتكسر، وأحمد وعده إنه هيجيبه»، يسرد «عبدالمنعم» وكأن التفاصيل عالقة في رأسه مثل شريط لا يتوقف.
مرت ساعات وعاد «أحمد» بدراعين آخرين، لكن صاحب محل الخردوات رفضهما، قال إنهما لا يصلحان للبلايستيشن، وأصر على استبدالهما بدراع مطابق.. هنا بدأ التوتر يزداد، صوت الصبي علا قليلًا وهو يقول: «هات البلايستيشن نجرب عليه الدراعات يمكن تشتغل»، لكن حسام لم يكن في مزاج جيد، فجأة ارتفع صوته هو الآخر، ثم ارتفعت يده، وصفع ابن الـ17 عامًا.
طعنة في القلب
«أنا كنت واقف برة، سمعت صوت الخناقة، دخلت بسرعة علشان أفصل بينهم»، يقول «عبدالمنعم»، ويضيف أنه استطاع تهدئة الموقف قليلًا، وأخرج «أحمد» من المحل، لكن الصبي لم يقتنع، ظل واقفًا خارجًا، ينظر إلى الداخل وكأن في قلبه شيئًا لم ينتهِ بعد.
بعد لحظات، عاد «أحمد» إلى المحل مرة أخرى، دخل، حاول التفاهم مع حسام من جديد، لكن الأخير كان ممسكًا بسكين صغيرة يقطع بها بعض الكبدة على عربة الطعام التي يديرها بجانب محل الخردوات، الأمور تصاعدت فجأة، لم يكن أحد يعرف كيف، لكن ما يعرفه «عبدالمنعم» أن صاحب المحل دفع «أحمد» في صدره، ثم تحركت يده بسرعة، ولم يكد يستوعب ما حدث حتى رأى الدماء تلطخ الأرض.
«الدم كان في كل حتة، أحمد مسك صدره، ووقع على الأرض، والناس كلها جريت عليه»، يقول «عبدالمنعم» وهو يحاول أن يصف المشهد، تم نقله إلى المستشفى، مكث في العناية المركزة خمسة أيام، ثم توقف قلبه.
«مش علشان يموت كده»
في بيت العائلة، حيث كان «أحمد» ينام كل ليلة، لم يعد هناك صوت سوى البكاء، والدته تجلس في ركن الغرفة، لا تزال غير قادرة على استيعاب الأمر. «ابني راح.. خرج برجليه وما رجعش»، تقول وكأنها تحاول أن تقنع نفسها قبل أن تقنع الآخرين.
شقيقه الأكبر يقف في زاوية الغرفة، يشيح بوجهه بعيدًا، وكأنه يخشى أن يظهر ضعفه. «كان أخونا الصغير، بس كان هو اللي شايل همنا، كان راجل البيت»، يقول وهو يمسح دمعة سريعة حاولت الفرار من عينيه.
أما «حسام»، صاحب المحل، فيقول: «ماكنش قصدي.. هو اللي كان مصمم ياخد الدراعين بتوع الكمبيوتر، ولما رجع واتخانق معايا، كنت بقطع كبده على العربية، والسكينة كانت في إيدي.. زقيته والسكينة دخلت في صدره».
يردد كلماته كأنها درع يحتمي به من الحقيقة، كأنها ستحميه من الشعور بالذنب، لكنه يعلم، كما يعلم الجميع، أن «أحمد» لن يعود، وأن طعنة واحدة كانت كافية لتغيير مصير بيت بأكمله.
خيط يلتف حول الحياة
في الحارة الضيقة، حيث يعرف الجميع بعضهم البعض، سيظل اسمه يتردد كلما مر أحدهم أمام محل «حسام»، كلما نظرت أمه إلى سريره الفارغ، كلما جلس شقيقه الأكبر ليفكر كيف سيملأ الفراغ الذي تركه أحمد وراءه.
«كان آخر العنقود.. وكان قلبه علينا كلنا»، تقولها أمه وكأنها تحاول استعادة الزمن إلى ما قبل الطعنة، إلى ما قبل الذراع المكسور، إلى اللحظة التي كان فيها أحمد حيًا.