المصري اليوم

2025-06-21 22:01

متابعة
من الركام خرجوا بلا نفس.. تفاصيل 48 ساعة من التنقيب عن جثامين ضحايا عقارات حدائق القبة (قصة كاملة)

«مصرع 10، بينهم 4 أطفال، وإصابة أكثر من 10 أشخاص نُقلوا إلى المستشفيات المجاورة، بعضهم في حالات حرجة، وآخرون يجرّون أجسادهم المليئة بالكدمات، و9 ناجيين خرجوا من بين أنقاض الموت، فيما وثق عدد من سكان المنطقة الفاجعة بهواتفهم المحمولة».. هذا هو المشهد الأخير ليوم حزين طويل عاشه أهالي شارع أبوسيف في حدائق القبة بالقاهرة، بعد أن انهارت 3 عقارات دفعة واحدة، اثنان بشكل كامل، والثالث تضرر جزئيًا، فتحول الحى الشعبى إلى أطلال، وغاصت بعض البيوت في بطن الأرض، كأنها لم تكن.

«الأرض بتترج»

في ظهيرة يوم الجمعة، لم يكن أحد من سكان الشارع يتخيّل أن يومهم سيتحوّل إلى كابوس مفتوح على الفقد والركام، إذ بدأت المأساة في الساعة الحادية عشرة والربع صباحًا، حين شعر الأهالي بهزة خفيفة، تبعتها سحب كثيفة من الغبار، وصراخات قادمة من قلب الشارع.

يقول «سيد»، أحد السكان: «قبل صلاة الجمعة حسيت كأنه زلزال، وبعدها بـ 3 دقايق كان التراب مغطي السما.. البيت وقع، واللي حصل كان متوقع، لأن العقار ده أصلًا كان آيل للسقوط، وفي ست كانت بتخلي شقتها الصبح قبلها بساعات، زي ما كانت حاسة».

«نعمة»، ربة منزل، تصف اللحظة الأولى: «أنا كنت قاعدة على الكنبة، لقيتها بتهز بيا يمين وشمال، حسيت إن الأرض بتترج، بصينا من البلكونة لقينا البيتين والأرض بقوا حاجة واحدة».

اقرأ أيضًا| «الصدمة الأولى كانت كريم وابنه».. «أحمد» يروي ما حدث في شارع الموت بمنطقة حدائق القبة

شهود العيان يروون أن أحد العقارين كان قد أُخلي من السكان قبل يومين بناء على قرار من الحي، لكن العقار الآخر لم يتم إخلاؤه رغم صدور تقارير هندسية تؤكد خطورته، وفيما كانت قوات الدفاع المدني تصل إلى الموقع، بدأت أولى الجثث في الظهور من تحت الأنقاض.

«ما وعدتنيش تموتي»

«أحمد»، شاب ثلاثيني من سكان الشارع، تلقى اتصالًا من والده يخبره بانهيار العقارات المجاورة، يقول لـ«المصرى اليوم»: «جريت على البيت، أول حاجة شفتها كانت خروج جثة صاحبي كريم من تحت الأنقاض، كان صاحب محل كابات وملابس رياضية، وطلع ابنه (أحمد) الكبير متوفى، وزوجته ليلى طلعوها مصابة».

كانت هناك طفلة اسمها «حور»، ابنة «أيمن»، أحد الناجين، لا تزال تحت الركام. الأب خرج حيًّا، وظل يبحث عنها، وعندما سُمِع صوتها، احتشد الجيران حول موقع الحفر، وهتفوا باسمها «حور.. حور»، إذ يقول الجار شاهد العيان: «طلعناها، كانت رجليها مكسورة، بس عايشة.. الناس صفقت، وكلنا كنا بنبكي من الفرحة».

لكن الفرحة لم تدم، إذ توفيت «حور» بعد ساعات متأثرة بجراحها، والدها حملها وهو يبكي: «ما وعدتنيش تموتي.. كنتِ لسه بتضحكيلي».

وفي المساء، تمكنت قوات الدفاع المدني من انتشال والدتها «هبة»، حية، لكنها توفيت لاحقًا، ثم أُخرج جثمان شقيقها الصغير «حمزة»، ليلحق بأمه وأخته.

في زاوية أخرى من الشارع، جلست «نجلاء» على الرصيف تحت شجرة مكسورة، تمسك في يدها صورة صغيرة لابنتها «ملك» ذات الـ5 أعوام.. كانت الطفلة تقضي اليوم مع جدتها داخل إحدى الشقق المنهارة، ولم يُعثر عليهما حتى اللحظة.

اقرأ أيضًا| «كانت بتنادي على باباها».. «حور» تلحق بضحايا انهيار عقارات حدائق القبة

عينا الأم جاحظتان، لا ترمش، تحدق في الركام وكأنها تنتظر أن تخرج منه ابنتها تسير نحوها كما كانت تفعل كل يوم وهي تقول «ماما أنا جعانة»، تقول بصوت متقطع: «كل ليلة كانت تقولي عايزة نام في حضني، النهاردة مشيت بدري.. مشيت ومارجعتش، طب ترجعلي حتى جثة؟».

«أقعد شوية مع مراتي وابني»

قصة أخرى شهدها الشارع، حين لقى الشاب رمزي عطية، المعروف بـ«رمزي الترزي»، مصرعه داخل محله المواجه للعقار المنهار، يقول أحد الجيران، عم «جمعة»: «هو ماكنش في البيت، كان في محله.. بلكونة وقعت عليه فجأة ومات جوّه المحل».

شهود عيان أكدوا أن الشاب أحمد عيسى كان في الشقة وقت انهيار العقار محل سكنه، يحتضن زوجته ورضيعهما عندما سقط السقف فوق رؤوسهم.

يقول أحد الجيران: «كان أحمد لسه راجع من شغله.. ما رضيش ينزل، سابهم فوق، وقال (أقعد شوية مع مراتي وابني، وبعدين ننزل).. محدّش كان يتخيل إن اللحظات البسيطة دي هتبقى الأخيرة».

انهيار عقارات حدائق القبة- تصوير: محمد القماشانهيار عقارات حدائق القبة- تصوير: محمد القماشلحظة إنقاذ الطفلة «حور» من تحت أنقاض عقارات حدائق القبة- تصوير: محمد القماش«كريم» وابنه «أحمد».. ضحيتا حادث انهيار عقارات حدائق القبة

اقرأ أيضًا| «هروح بالعيال فين؟».. أم «مريم» تروي لحظات الانهيار وفقدان المأوى بعد سقوط عقارات حدائق القبة

الانهيار كان مفاجئًا، وسقف الشقة سقط بالكامل فوق الأسرة الصغيرة، لتتحول الغرفة إلى مصيدة صامتة لا تسمع منها سوى تراب وأنين. «كنا بنحاول نوصل لهم بأي طريقة، كسرنا باب الشقة، بس ما لقيناش مكان نعدي منه»، يقول شاهد آخر، بينما يشير إلى أنقاض الطابق الرابع الذي صار كتلة من الأسمنت المكبوس فوق السرير.

«يارب نسمع أي صوت»

«الطفل عمره شهور.. كان في حضن أمه.. والاتنين في حضن أبوه»، يروي الجار، متذكرًا اللحظة التي تسلل فيها صوت بكاء خافت من داخل الشقة، قبل أن يصمت فجأة: «كان فيه صوت، ثم انقطع.. حسينا وقتها إنهم خلاص.. اتحبسوا في لحظة موت واحدة، وهم في حضن بعض».

محاولات الجيران لم تتوقف، ظلّوا يصرخون بأسماء الأسرة، يحفرون بأيديهم، وينادون عليهم كل بضع دقائق. «كنا بنقول: يا رب يرد.. يا رب نسمع أي صوت.. بس اللي حصل كان أقوى مننا»، يضيف أحدهم، والغصة تخنق صوته.

عمليات الدفاع المدني استغرقت ساعات للوصول إلى الشقة، إذ كان الانهيار كاملًا ومعقدًا، وتطلب تدعيمات هندسية دقيقة لإزالة أجزاء الركام دون أن تسبب خطرًا أكبر على من قد يكونون أحياء أسفله.

«رمزي الترزي» ضحية حادث انهيار عقارات حدائق القبة«أحمد عيسى» وزوجته.. ضحيتا انهيار عقارات حدائق القبةاختفاء الشاب ضياء تحت ركام عقار في حدائق القبة

اقرأ أيضًا| «لو كان معاهم فلوس كانوا خرجوا».. شهادة صادمة عن انهيار عقارات حدائق القبة (قصة كاملة)

«اللحظة اللي شلنا فيها الحجارة، لقيناهم زي ما هما.. أحمد محتضنهم.. كأنهم كانوا نايمين على السرير، بس السقف كان أقسى من الحلم»، يقول أحد أفراد فرق الإنقاذ، مضيفًا: «المنظر ده مش هنساه طول حياتي».

«ادعوا لضياء أبوولادي»

عند مدخل الشارع، وقف رجل أربعيني يضع كيسًا بلاستيكيًا بين يديه، ويحدّق في الحطام بصمت. اسمه «أبوزياد»، كان يعمل سبّاكًا في المنطقة، وخرج من البيت قبل الانهيار بدقائق ليشتري لأسرته فطارًا.«كان صاحي من بدري، وبيقولي عايز فول وطعمية من عند عم ياسر.. قلت له هستناك، وهنفطر مع بعض زي كل جمعة، وضحكنا سويًا».

عاد ليجد البناية وقد ابتلعها الأرض، والطعام ما زال دافئًا في الكيس. «مش قادر أسيبه، مش قادر أرجع بيه البيت وهو مش معايا»، يقولها ودمعة تنزل في صمت.

المأساة اتخذت أبعادًا أكثر قسوة مع تداول صورة على «فيسبوك» نشرتها سيدة تُدعى ليلى خالد، تقول: «ادعوا لضياء أبوولادي.. تحت الأنقاض». الشاب ضياء لا ظل مفقودًا لأكثر من 30 ساعة، وفرق الإنقاذ نجحت في الوصول إلى جثمانه.

انهيار عقارات حدائق القبة- تصوير: محمد القماششهادة «أحمد» عن فقد صديقه «كريم» وابنه في انهيار العقارات بـ حدائق القبة- تصوير: محمد القماش

اقرأ أيضًا| «كان في محله بيشتغل».. شهادة جار عن رحيل «رمزي الترزي» في حادث انهيار عقارات حدائق القبة

حتى مساء اليوم التالي، استمرت قوات الحماية المدنية في عمليات البحث عن المفقودين باستخدام الكلاب البوليسية. ومن بين الناجين، الطالب يوسف غالي، أحد طلاب الثانوية العامة، والذي قضى 10 ساعات تحت الأنقاض قبل أن يُنقذ.

«ماتوا لأننا استنينا»

«أم مريم»، إحدى السكان، تقول: «أنا بيتي لسه واقف، بس اتصدع، وأنا مش هعرف أعيش فيه تاني.. ابني ماريو محتاج عملية، ومش عارفة هننام فين، الحي كان بييجي يصور العقارات دي، بس مفيش حد أنقذنا».

شهود من الجيران أكدوا أن بعض مسؤولي الحي ترددوا على الشارع في اليومين السابقين للكارثة، والتقطوا صورًا للعقارات، وأبلغوا السكان أن المنازل «آيلة للسقوط»، لكنهم لم يتحركوا لإخلائها، واكتفوا بتصريحات مقتضبة. «قالوا: سيبوها تتهد لوحدها أحسن، بدل ما يبقى فيه خسائر لو هديناها يدوي»، تقول إحدى السيدات، وتضيف: «بس هو ده اللي حصل.. ماتوا لأننا استنينا».

انهيار عقارات حدائق القبة- تصوير: محمد القماش

خلفية الحادث تؤكد أن العقارات الـ 3 كانت مصنفة ضمن الأبنية الآيلة للسقوط منذ أشهر، وسبق أن زارتها لجان هندسية، لكن لم تُتخذ إجراءات فورية لإخلائها. السكان يؤكدون أن تقاعس الجهات الرسمية ساهم في تفاقم الكارثة.

ورغم مرور أكثر من 24 ساعة، لا يزال الأمل معلقًا على أصوات خافتة تأتي من تحت الحجارة، تصرخ: «أنا هنا».

اقرأ أيضًا| «ده مش دفن.. ده زفّة عريس».. «أم سمير» طالب الثانوية تبكي ابنها ضحية انهيار عقار السيدة زينب

من جانبها، بدأت النيابة العامة تحقيقاتها، وانتقل فريق منها إلى موقع الكارثة، وكلفت المباحث الجنائية بإجراء تحريات موسّعة لكشف ملابسات الانهيار وظروفه، والاستماع إلى شهادات الجيران والناجين.

جنازة ضحايا عقارات حدائق القبة

أمرت النيابة بتشكيل لجنة هندسية ثلاثية لفحص بقايا المباني المنهارة والعقارات المجاورة، خصوصًا تلك التي سبق تصنيفها آيلة للسقوط.

وبينما كانت فرق الدفاع المدني تواصل أعمال الإنقاذ، أصدرت النيابة تصاريح بدفن جثامين الضحايا بعد مناظرتها، وطلبت استدعاء مسؤولي حي حدائق القبة لسماع أقوالهم بشأن الإجراءات التي اتُخذت – أو لم تُتخذ – قبل الكارثة، كما قررت إخلاء 4 عقارات أخرى مجاورة، خشية تكرار السيناريو ذاته، بعد أن كشفت المعاينات عن تصدعات هيكلية.

وسط أجواء يغمرها الحزن، شيّع الأهالي جثامين الضحايا في جنازات شعبية، حيث لم تتمالك الأمهات دموعهن، وارتفعت أصوات النحيب على من غادروا بلا وداع.

سارت النعوش على الأكتاف بين أزقة الحي المنكوب، تسبقها دعوات المكلومين وصرخات الأطفال: «ليه سبونا؟»، فيما تكدست النساء حول الأمهات الثكالى، محاولات احتضانهن، أحد المشيعين همس بصوت مختنق: «اللي ماتوا دول كانوا جيرانّا.. كانوا أصحابنا.. وراحوا في لحظة».

للإطلاع على النص الأصلي
38
0
مشاركة
حفظ

آخر الأخبار

أحدث الأخبار

    أحدث الفيديوهات