«رجع من شغله مرهق وتعبان وعلى معدة فاضية»، تقول «هبة» وهي تنظر إلى صورة ابنها «عبدالله» – 20 عامًا – التي تحتفظ بها في محفظة جلدية صغيرة، وكأنها تمسح الغبار عن ملامحه بعيون تغرقها الدموع. لم يكن يحمل سلاحًا، ولا حتى نية خصام، فقط هاتفًا محمولًا مستعملًا كان قد اشتراه من أحد جيرانه منذ عام، لكن اثنين من الجيران – الأب وابنه – صاحبا محل بيع كلاب مفترسة- أرادا استرجاعه بالقوة بعد أن ارتفعت أسعاره.
تفاصيل مقتل عبدالله شاب إمبابة بسبب هاتف محمول
ولم يكد يصل إلى مدخل الشارع محل سكنه في إمبابة بالجيزة، حتى باغته الأب «رجب» بركلة مفاجئة، فيما انقضّ ابنه «سيد» على الهاتف من يد الشاب العشريني، وعندما حاول استرداده، تلقى طعنة بمفك في صدره، تبعتها طعنتان نافذتان من سلاح أبيض، سقط المجني عليه غارقًا في دمه، ولم يعرف أن رغبته البسيطة في الراحة ستكون خطوته الأخيرة نحو القبر.
«عبدالله» اشترى الهاتف من أحد جيرانه، شاب يُدعى «سيد»، مقابل 1500 جنيه جمعها على مدار أشهر من عمله، ولم يكن الهاتف جديدًا، لكنه كان كافيًا لاحتياجات الشاب العشريني الذي اكتفى بدبلوم التجارة وخرج للعمل مبكرًا ليعيل أمه وإخوته، منذ أن تركهم الأب قبل 6 سنوات دون رجعة.
«أول فرحتي وسندي»
«كان أول فرحتي، وابني الكبير، اللي شايل البيت على كتفه»، تقول «هبة»، التي تعمل عاملة نظافة منذ سنوات، وهي تحاول استعادة نبرة صوتها أمام جدران منزلهم الضيقة: «هو اللي بيدفع مصاريف أخته اللي داخلة على جواز، وأخوه محمود في تانية إعدادي، وأخته الصغيرة في رابعة ابتدائي، ما عنديش غيره، كان سندي وذراعي».
قبل نحو 20 يومًا من الواقعة، تقول «هبة» لـ«المصرى اليوم» إن «سيد» جاء إلى ابنها يطلب منه استرجاع الهاتف، وأضافت: «قال له: الأسعار غليت، وعايز أرجعه وأديك فلوسك، لكن عبدالله رفض، قال له: أنا اشتريته وبقى بتاعي، ومن بدأت المشكلة تكبر».
اقرأ أيضًا| من الركام خرجوا بلا نفس.. تفاصيل 48 ساعة من التنقيب عن جثامين ضحايا عقارات حدائق القبة (قصة كاملة)
مساء الجمعة الماضى، أنهى «عبدالله» نوبته في المصنع، ربط خيوط الكراسي بيديه المتشققتين، وعاد إلى بيته عبر شارعهم المعروف في إمبابة. «كان لسه بيقول السلام عليكم لرجب، أبوسيد، اللي قاعد دايمًا قدام باب البيت، لما الراجل هجم عليه برجله فجأة من غير كلام»، تحكي «هبة» أن المشهد كان سريعًا، ولم يُعطِ أحدًا وقتًا للفهم: «رجب ضرب عبدالله بالرجل، وسيد نطش التليفون من إيده، فعبدالله حاول يشده تاني، بس اللي حصل بعدها كان بشع».
التفت الناس على صراخ «هبة»، التي خرجت على صوت ابنها يصرخ من الألم، فوجدته مُلقى على الأرض. «كان بينزف، رجب ضربه بالمفك، غرز في صدره، وابنه سيد جاب مطواة وطعن عبدالله مرتين: واحدة في جنبه، والتانية في قلبه، وأنا مش عارفة أعمل إيه»، تقف لحظة، تنظر إلى الأرض، ثم تواصل: «أنا وقعت جنبه، حسيت إني بموت، وكان بينده عليّ يقول لي: الحقيني يا أمي، مش شايف، الدنيا سودة».
لم يكن هناك وقت. حمله الجيران إلى مستشفى الموظفين العام. «الدكتور خرج بعد ساعة وقال لي: البقاء لله». عند هذه اللحظة، انفجرت «هبة» في بكاء مرير، لم تتمكن من إكمال جملتها التالية، واكتفت بوضع يدها على صدرها، حيث ما زالت تشعر بطعنة خفية في الروح.
اقرأ أيضًا| «الصدمة الأولى كانت كريم وابنه».. «أحمد» يروي ما حدث في شارع الموت بمنطقة حدائق القبة
حاولت العائلة لملمة ما تبقى من قوة، حضرت الشرطة على الفور، وأثبتت التحريات وقوع المشاجرة بسبب الهاتف، وتم ضبط «سيد» ووالده «رجب»، ووجهت إليهما النيابة العامة تهم القتل العمد مع سبق الإصرار، واستخدام أدوات حادة في الاعتداء، كما قررت التحفظ على أداة الجريمة، وهي مفك وسلاح أبيض، إضافة إلى الهاتف المحمول الذي كان سبب النزاع.
«كان شايل البيت على كتافه»
«عبدالله كان بيحلم يشتري موتوسيكل بعد ما ياخد أول زيادة في مرتبه»، تقول «هبة» وهي تمسك بكتاب دين صغير كان يحتفظ به في جيبه: «كان دايمًا يقول لي: يا أمي ربنا هيكرمنا، وإنتي هترتاحي.. بس راح».
داخل البيت، تتناثر صور «عبدالله» على الحائط، يبتسم في كل واحدة منها، «أخته كل يوم تحط صورته جنب فستانها الجديد اللي اشتراه لها وتعيط»، تقول «هبة»، «ومحمود مش عايز يروح المدرسة، بيقول لي: أنا عايز آخد حق عبدالله».
في محيط سكنه، لا ينقطع حديث الناس.. الجميع يعرف أن «عبدالله» لم يكن شابًا مفتعلًا للمشكلات، بل كان محبوبًا، يسلم على الصغير والكبير، ويمر كل صباح ليشتري الخبز لأمه قبل الذهاب إلى المصنع. «كان مؤدب، مفيهوش غلطة»، يقول أحد الجيران، بينما يضيف آخر: «اللي حصل جريمة، مش خناقة، ده قتل عمد، والولد مات مظلوم».
اقرأ أيضًا| العثور على جثامين 3 صغار داخل فيلا بالشروق.. والشكوك تحوم حول والدتهم
«مش عايزة حاجة من الدنيا غير حق ابني»، تهمس «هبة» بصوت بالكاد يُسمع، «أنا شقيت عليه، وكان راجل، مش ولد.. راجل بمعنى الكلمة، بيصرف على إخواته، وواقف معايا في كل حاجة، حتى لما كنت أعيى، كان يشيلني على ضهره للمستشفى».
في جلسات الليل، ترفض والدة المجني عليه إغلاق باب الشقة، تتركه مواربًا، وكأنها تنتظر «عبدالله» يعود: «لسه كل يوم الساعة 6 المغرب بحضر له الأكل، زي ما كان بيحب»، تقول وهي تمسح على غطاء مائدة فارغ، «بس ما حدش بييجي».