«كانت قاعدة جنبي، بتضحك وبتهزر.. وفي ثانية واحدة، مابقيتش موجودة».. بصوت مختنق بالحيرة والدموع، تحكى وردة إبراهيم محمد، السيدة الأربعينية، تفاصيل اللحظة التي تحولت فيها جلسة نسائية بسيطة إلى مأساة في قلب منطقة النرجس بالتجمع الخامس في القاهرة، إذ لقيت صديقتهن مصرعها بسبب سيارة تقودها «سيدة» بسرعة جنونية واعتلائها الأرصفة، ما أسفر عن مصرع سيدة- صديقتهن- وإصابة 4 أخريات، بينهن طفلتان، في مشهد قاس التهم الأرصفة الـ3 التي كانت تحتضن جلساتهن اليومية.
حادث التجمع الخامس.. جلسة شاي تنتهى بجثة وطفلة بين الحياة والموت
لم تكن تلك الظهيرة تختلف كثيرًا عن الأيام السابقة، فالمكان ذاته— الجزيرة الوسطى المحاذية لمساكن الفيلات— هو ملتقى النسوة المغتربات، اللاتى يعملن في حراسة الفيلات والشقق، أو يرافقن أزواجهن في هذه الوظائف الشاقة التي لا تميز بين ليل ونهار.
«وردة» كانت تجلس بصحبة جارتها وصديقتها الأقرب «نوسة»، وبجوارهما كانت «روحية» – زوجة حارس العقار رجب على – ومعها طفلتها الصغيرة «فريدة» ذات العام و4 أشهر، و«أم هناء» وابنتها، وأخريات كن حولهن، يحتسين الشاى ويتبادلن قصص اليوم، وأطفالهن يلهون على الرصيف المتشقق تحت أشعة الشمس.
في لحظة خاطفة، انقلب كل شىء، سيارة ملاكى، جاءت من حيث لا يتوقع أحد، انحرفت عن الطريق، صعدت على الرصيف الأول، ثم الثانى، ثم الثالث، لتدخل قلب الجزيرة الوسطى كالسهم، وتدهس من تصادفهم في مسارها.
«مالحقناش نقوم، مالحقناش نزعق»، تقول «وردة» لـ«المصرى اليوم»، وهى تضم طفلها «آسر»، الذي لم يتجاوز عامه الـ4، وتتحسس آثار الكدمات على جسدها، تتوقف قليلًا، وتكمل بصوت أقرب إلى الهمس: «العربية شالت نوسة.. لبسها إتشبك في الإكصدام، وسحلتها قدامنا».
«وردة» صديقة الضحية: «أصيبت بسبب رعونة سيدة تقود ملاكى»
«أنا جسمى كله وجعنى، مش بس من الكدمات، من منظر نوسة وهى بتتسحل.. هدومها كانت بتتشال من عليها قطعة قطعة، وكل ما العربية تمشى، أنا أقول خلاص هتقف، بس كانت بتكمل، وكلنا كنا في حالة شلل، مش قادرين نتحرك ولا نصرخ حتى. أنا مش شايفة الكدمات، بس شايفة منظر نوسة وهى بتتسحب، وده اللى بيصحينى من النوم مرعوشة كل يوم»، تروي «وردة».
لم تكن «نوسة» سوى واحدة من عشرات السيدات المغتربات اللواتى قدمن من محافظات بعيدة بحثًا عن فرصة عمل أو لقمة عيش، خرجت من قريتها في كفر الشيخ، واستقرت مؤقتًا مع زوجها «هشام» في القاهرة، كانا يعملان حارسين لأحد العقارات في المنطقة، ويعيشان حياة بسيطة مع أطفالهما الـ3: «محمد»، و«أحمد»، و«كارما»، أكبرهم لم يتجاوز الـ10 من عمره.
«قبل ما تموت بدقايق، كانت قاعدة جنبى، واتصلت على أمها وأبوها علشان تطمّنهم.. كانت بتضحك»، تحكى «وردة»، إذ مازالت غير قادرة على استيعاب الفقد المفاجئ: «فى لحظة، بقت نوسة جسدا ساكنا.. روحت لأهلها في كفن».
الشارع الذي شهد الحادث ليس شارعًا سريعًا، ولا تقاطعاته خطرة، ومع ذلك، وجدت النساء أنفسهن في قلب الكارثة، السيارة التي كانت تقودها إحدى السيدات اقتحمت الأرصفة الـ3، ودهست الجالسين بلا تمييز.
رجب على، حارس العقار وزوج المصابة «روحية»، يقول إن زوجته كانت جالسة مع زميلاتها في نهاية دوامهن، عندما باغتتهن السيارة: «الست اللى سايقة دخلت في وشهم، ماحدش لحق يبعد، حتى العيال الصغيرين»، ويضيف: «نوسة طلعت على 3 أرصفة، جسمها إتقطع، وهى اللى شالت الصدمة لوحدها».
حكاية «نوسة» التي دهستها سيارة وخلّفت أطفالًا أيتامًا
«فريدة»، الطفلة الصغيرة، أصيبت هي الأخرى، ويخضع جسدها النحيل للفحوصات الطبية، وأمها «روحية» مازالت تتلقى العلاج من الكدمات، بينما زوجها لا يفارق المستشفى ولا قسم الشرطة، حيث تابع نقل جثمان «نوسة» بعد أن لفظت أنفاسها الأخيرة في سيارة الإسعاف.
بعد صدور قرار النيابة العامة بالتصريح بدفن الجثمان، نُقلت «نوسة» إلى قريتها في كفر الشيخ، لم يرافقها هذه المرة زوجها «هشام» كشريك في الغُربة، بل كحامل لنعشها، رحلت «نوسة» وتركت خلفها أطفالًا صغارًا لم يدركوا بعد أن أمهم لن تعود.
«كارما بنتها كانت بتعيط، بتقول فين ماما؟»، تهمس «وردة»، وتعضّ على شفتيها كى لا تبكى: «وإحنا مش قادرين نقول لها الحقيقة.. مافيش أم».
«نوسة كانت بتحب ولادها جدًا، كانت دايمًا تبعتلى صورهم وتقول لى: شوفى محمد بقى شبه هشام، وكارما شاطرة في المدرسة، كانت بتحوشلهم من مصروفها، وكانت بتحلم تشوفهم في بيت ملك مش أوضة في عمارة، ماتت نوسة ومشافتش حلمها يتحقق، ولا حتى لحقت تودّعهم.. كانت بتشتغل علشانهم، وراحت وسابتهم فجأة، لا حضن ولا كلمة وداع»- وفق صديقة الضحية.
زوج «نوسة»- «هشام»، لم يكن يملك الكثير، وكان يعتمد على عمله كحارس فيلا ليعول أسرته، اليوم، صار أرملًا وأبًا وحيدًا لـ 3 أطفال بلا سند- وفق أحد أقاربه.
فيما كانت النيابة العامة تحقق مع المتهمة، وتصدر قرارًا بحبسها، تساءلت النسوة اللواتى كن يجلسن مع «نوسة»: «فين كانت سايقة؟، وإزاى بتدخل الجزيرة بسرعة كده؟، فين ضميرها؟»، تصرخ «وردة».
المنطقة نفسها شهدت قبل أسابيع قليلة وفاة أحد أزواج السيدات هناك – زوج «أم هناء» – بصعق كهربائي في مكان عمله، كانت أرملة حديثة، وأمًا لطفلين، واليوم تكاد تنجو بأعجوبة من أن تصبح قصة جديدة من قصص الموت المجاني، حسب والدها.
«لو كانت أم هناء ماتت كمان، كان العيال بقوا يتامى أم وأب.. كنا هنرجّعهم إزاي لأهلهم؟»، تقول «وردة»، وهي تشير إلى المكان الذي كانت تجلس فيه قبل الحادث: «لسه فيه آثار دم نوسة، ولسه ما حدش صدق إنها ماتت».
صوت المحرك الذي اجتاح الأرصفة الـ3 ما زال يدوي في رؤوس المجنى عليهم، «أنا مش قادرة أنام، بحس إن نفس العربية هترجع، وإننا لسه في الكابوس»، تقول «وردة»، وتضيف: «كلنا كنا هنبقى مكان نوسة، هي اللي شالت عنّا.. هي اللي اتأذت لوحدها».
«ربنا هو اللي يجيب حقها»، تكرر «وردة»، وهي تمسح دمعة على خدّها وتضم طفلها بقوة.