الشوارع تفيض بالصمت، البيوت تتشح بالسواد، والهواء نفسه صار ثقيلاً مشبعًا بكآبة موحشة، كأن الزمن توقف عند لحظة الوداع، وكأن القرية لفظت أنفاسها مع أرواح 19 شهيدًا قضوا نحبهم في حادث أليم خلال رحلة البحث عن لقمة العيش.
لا شيء يشبه الحياة في قرية كفر السنابسة التابعة لمركز منوف بمحافظة المنوفية، بعد يوم من الكارثة، فليس هناك ما يُسمع سوى وقع الخطى الخفيفة، وحديث خافت بين البائعين في محلاتهم الذين يتضامنون بالصوت المنخفض، ووسائل النقل التي تمر بصمت دون أن تجرؤ على بث أغنية، والشوارع برغم ازدحامها خلت من الضجيج، كل شيء في كفر السنابسة بدا وكأنه يهمس احترامًا لمشاعر الحزن الطافية في الأجواء.
وفي توقيت الظهر، صدح صوت المؤذن في أحد الجوامع، وحين فرغ من الأذان، أضاف بصوت رخيم مرتجف: «فيه عزاء جماعي لشهداء الأمس»، لم تكن الجملة غريبة على آذان أهل القرية، لكنها حفرت في قلوبهم وجعًا جديدًا، عند ردهات الجامع، وعلى مشارف أماكن الوضوء، كانت أحاديث الناس تنبض بالأسى، يتداولون فيما بينهم تفاصيل الحادث الأليم الذي وقع على الطريق الإقليمي، حيث انفصلت المقطورة عن الشاحنة، فاصطدمت بسيارة تحمل أرواحًا بريئة، لتتحول إلى سيارة الموت، حسبما قال أحدهم.
بينما أضاف آخر: فيه أربعة مصابين لسه في مستشفى أشمون، و رد آخر: اللي راح راح، حقهم عند اللي خالقهم، المشاعر متأججة، لكنها محاطة بالرضا والقناعة بالقدر ليس استسلامًا، بل إيمانًا بأن العدالة الحقيقية ليست من صنع البشر.
وبعد الصلاة، تمضي في شوارع القرية فتقابلك أفواج من النساء المتشحات بالسواد، كل فوج يتفرق عند بيت مختلف، فالمنازل التي أصابها الحزن كثيرة، ومشاهد تصايح النساء، وبكاء الرجال، ووجوه الأطفال المتسائلة من صدمة الأمس كلها ترسم لوحة عزاء لا مثيل لها.
ومن مظاهر التضامن الراسخة في هذه الأرض الهادئة، ترى النساء يحملن «صواني الطعام»، على رؤوسهن، يمضين بها إلى بيوت العزاء، في مشهد من التكافل الذي لا يموت حتى في لحظات الفقد.
الحياة التي فقدت معناها داخل قرية بدت وكأنها فقدت الروح مع أبنائها، كأن نبضها توقف، لكنها – رغم الحزن – وقفت متماسكة، تتعاضد، تتشارك الألم، وتُعلّم الآخرين أن الفقد، وإن كان موجعًا، لا يُفرّق بين القلوب إذا اجتمعت على الصبر والمواساة.