في زمنٍ تُهيمن فيه تحديات تغيّر المناخ، وأمن الطاقة، وضرورة النمو المستدام، تعود الطاقة النووية إلى الواجهة، ليس كرمزٍ من الماضي، بل كدعامة استراتيجية للمستقبل. وفي قلب هذه الرؤية تقف مصر، وهي تخطو بثبات نحو مرحلة جديدة من التنمية الشاملة، لتجعل من الطاقة النووية أكثر من مجرّد وسيلة لتوليد الكهرباء، بل محفّزًا للتحوّل الحضاري والاقتصادي والاجتماعي. ويتجلى هذا التحوّل في مشروع محطة الضبعة النووية.
تقع محطة الضبعة على الساحل الشمالي لمصر، وتُعد أول محطة نووية متكاملة في تاريخ البلاد. إلا أنّ أهميتها تتجاوز كثيرًا قدرتها الإنتاجية؛ فهي تمثل نقطة تحوّل في سعي مصر لتحقيق السيادة في الطاقة، وتنوّع مصادر الاقتصاد، والالتزام البيئي. وقد تولّت تنفيذ هذا المشروع شركة "روساتوم" الروسية الرائدة عالميًا في مجال التكنولوجيا النووية، بالتعاون مع هيئة المحطات النووية المصرية. ويُعد هذا المشروع تجسيدًا حقيقيًا للتعاون الاستراتيجي ونقل الخبرات، واستثمارًا طويل الأجل في مستقبل مصر واستقرارها.
ومن أبرز مزايا الطاقة النووية أداؤها البيئي المتقدّم؛ حيث تُعد واحدة من بين أقل مصادر الطاقة إصدارًا لغازات الدفيئة على مدار دورة حياتها، بمعدلات تضاهي طاقة الرياح وتفوق الطاقة الشمسية من حيث الانبعاثات. وفي بلد مثل مصر يعاني من ارتفاع درجات الحرارة، وندرة المياه، وتلوث الهواء، تصبح هذه الميزة ضرورة وليست ترفًا. ومن المتوقع أن تُسهم محطة الضبعة في تقليل ما يقرب من 11 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنويًا، بما يعزّز من جودة الهواء ويترجم التزامات مصر المناخية إلى واقع عملي. ويأتي هذا المشروع متناغمًا مع استراتيجية الطاقة المستدامة المتكاملة 2035، ويُعد نموذجًا في تطبيق معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG). كما يحظى برقابة بيئية صارمة تضمن حماية النظم البيئية والتنوّع الحيوي على طول الساحل الشمالي.
غير أن التأثير الحقيقي للطاقة النووية في مصر يتجاوز الكهرباء بكثير. فهو يمتد إلى قطاعات تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن الطاقة، لكنها ترتبط بها جوهريًا. من أبرز الأمثلة على ذلك: قطاع الرعاية الصحية، وتعد "روساتوم" من بين الخمسة الأوائل عالميًا في إنتاج النظائر المشعة الطبية، والتي تُستخدم في أكثر من 2.5 مليون إجراء تشخيصي وعلاجي سنويًا في 50 دولة. ومع التوسّع المستمر في منظومة الرعاية الصحية المصرية، سيُمكن الاستفادة من هذه التقنيات بشكل محلي، مما يعزز من قدرة المستشفيات المصرية على تقديم خدمات متقدّمة في علاج السرطان وأمراض القلب والمخ. كما أدخلت "روساتوم " إلى السوق المصرية جهاز "Tianox" للعلاج بأكسيد النيتريك، وهو جهاز روسي متطوّر يُستخدم في حالات القصور التنفسي للبالغين والأطفال، ويتميز بدقّته العالية وسلامته الكبيرة.
أما في قطاع الزراعة، وهي إحدى ركائز الأمن القومي، فهي الأخرى تستفيد من التطبيقات النووية. فبواسطة أشعة جاما، يمكن تعقيم الآفات الزراعية، والحفاظ على السلع القابلة للتلف، وإطالة عمر المنتجات الغذائية دون الحاجة إلى مواد كيميائية أو إضافات. وتُعد هذه التقنيات ذات قيمة هائلة في مصر، حيث ان الأراضي الزراعية محدودة، والتحديات الغذائية في تصاعد. كما تسمح التكنولوجيا النووية برصد رطوبة التربة بدقة، وتحليل المحتوى الغذائي لها، ما يسهم في تحسين كفاءة الري والإنتاج الزراعي في بلد تُعد فيه كل قطرة ماء ذات أهمية قصوى.
الصناعة بدورها تحظى بنصيب وافر من التطبيقات النووية المتقدّمة، سواء في مجال المواد المركبة، أو الطباعة ثلاثية الأبعاد، أو الاختبارات غير الإتلافية، والتي تتيح الكشف عن سلامة المعدات دون الإضرار بها. وتدخل هذه التقنيات في مجالات مثل الطيران، والنقل، والبناء، وقطاع النفط والغاز. وتسهم في رفع كفاءة الصناعة المصرية، وتفتح آفاقًا لتوطين التكنولوجيا وتوفير وظائف ذات قيمة مضافة عالية.
ولا يمكن الحديث عن مشروع الضبعة دون الإشارة إلى الاستثمار في العنصر البشري. إذ تولي "روساتوم" اهتمامًا كبيرًا بتأهيل الكوادر في الدول الشريكة، من خلال المنح الدراسية، والتدريب الفني، وبرامج إشراك الشباب. وقد بدأت هذه الرؤية تؤتي ثمارها في مصر؛ حيث يتلقى المئات من الطلاب والمهندسين المصريين التدريب، سواء في الجامعات الروسية أو عبر العمل المباشر في موقع المشروع. إنها ليست مجرد عملية نقل للتكنولوجيا، بل صناعة لجيل جديد من العلماء والخبراء الذين سيقودون مستقبل الطاقة في مصر.
ولفهم الأثر بعيد المدى لمثل هذه المشاريع، يمكن النظر إلى تجربة محطة "كالينين" النووية في روسيا. قبل بناء المحطة، كانت المنطقة نائية ومحدودة النمو. أما اليوم فمدينة "أودومليا" التي نشأت حولها أصبحت مركزًا نابضًا بالحياة، تحتضن المدارس والمستشفيات والمؤسسات الثقافية والمصانع. لم يكن التحوّل مصادفة، بل كان تحولًا مستدامًا ومقصودًا.
وهذا النموذج بدأ يتكرّر في الضبعة. إذ تتوسع البنية التحتية، وتبنى الطرق والمساكن، وتُخلق فرص العمل، ويتلقى آلاف المصريين التدريب الفني، ويتحوّل المشروع إلى قاطرة تنموية تُنعش المنطقة بأكملها.
يأتي هذا المشروع في عامٍ تحتفل فيه الصناعة النووية الروسية بمرور 80 عامًا على انطلاقتها العالمية. وهي مسيرة لا تُختزل في التقدّم العلمي فحسب، بل في التأثير الحضاري العميق الذي أحدثته الطاقة النووية في تشكيل معالم العصر الحديث. ومع "روسيا" صاحبة أول منشأة نووية في العالم، تتواصل هذه المسيرة من خلال الابتكار، والتعليم، والتعاون الدولي من خلال روساتوم. واليوم تُسهم هذه الخبرات في إرساء مشروع الضبعة على أسسٍ راسخة من الأمان والكفاءة والاستدامة.
فالضبعة ليست مجرد محطة نووية، بل عنوان لشراكة ذكية ورؤية جريئة لما يمكن أن تُنجزه مصر حين تدمج الطموح بالتخطيط.
-
محمد صلاح المُفترَى عليه
-
بكاء محمد صلاح.. وتجميد عضوية إسرائيل
-
الشارع يشتعل في إنجلترا.. ويحترق في السودان وليبيا