سوهاج - خالد الصاوي
نشأت «أميرة» بين أسرة ميسورة الحال فى مدينة أبو قرقاص التابعة لمحافظة المنيا، وكانت جميلة تسر الناظرين هادئة فى طباعها، تفضل الصمت على الكلام، تخالف أترابها فى طباعهن، أثناء وجودها بمنزل الأسرة أو الحرم الجامعى، حتى حصلت على بكالوريوس العلوم.
أثناء دراستها فى الجامعة، لاح فى الأفق شاب يعمل معيداً بنفس الكلية التى تتلقى فيها دراستها، إنه «محمود» الذى كان يناديه الطلبة بالدكتور «محمود» رغم عدم حصوله على شهادة الدكتوراه بعد، وبدأ الدكتور يلاحقها بنظراته، بل سأل عنها زميلاتها المقربات منها، وعرف أنها من أسرة طيبة، تتشابه مع أسرته التى نشأ فيها، فتقدم لخطبتها، ووافقت الأسرة على ارتباط ابنتها بذلك العريس «اللقطة»، صاحب المستقبل الباهر بعد أن أخذت رأى العروسة بالموافقة، وتم عقد القران.
لم يمض أسبوع على الخطوبة، إلا وجاءت للعريس فرصة علمية للحصول على شهادة الدكتوراه من أمريكا، فشعر بأن تلك العروس هى «وش السعد»، وكانت سعادة «أميرة» أيضاً غامرة، ووعدها «محمود» بأن يصطحبها معه، ليعيشا معاً فى هذا البلد التى تتطلع إليها الأنظار، وبالفعل تحقق لهما ما كان يتمنيانه، وسافرا إلى أمريكا، يحملان حقيبة الأمل بالشهادات الدولية والدولارات أيضاً والمعيشة الفاخرة.
بعد عامين من إقامتها بالبلد الأجنبى مع زوجها، رزقت «أميرة» بأول مولودة لها وألقت عليها اسم «يمنى»، وكانت سعادتها لا توصف مع زوجها الذى اقترب من الحصول
على الدكتوراه، ولكن هيهات للأيام أن تمشى على وتيرة واحدة، فقد فاجأ المرض «أميرة» وحملها الزوج إلى المستشفى لعمل فحوصات وتحاليل طبية، وكانت النتيجة صادمة عندما أخبره الطبيب أن زوجته تعانى من فيروس «سى» وفى مرحلة متأخرة، فضاق ذرعاً بما سمع وعندما تناقش مع زوجته فى الأمر، قرر أن يكون الحل هو عودتها إلى مصر، ولم تجد الزوجة سبيلاً إلا العودة للوطن.حملت ابنتها الصغيرة ومرضها الكبير، وعادت لمسقط رأسها بمحافظة المنيا، وقصت لأسرتها ما كان من أمر المرض وما كان من تصرف زوجها، وحاولت الأسرة التخفيف عنها، وإقناعها بالتمسك بالأمل فى الحياة، خاصة أن الطب فى تقدم يومى وأن حالتها المرضية قد مرت بالكثيرين، وأن الله تعالى قد أثابهم بالشفاء بعد صبرهم الطويل.
بدأت حالة «أميرة» النفسية تزداد سوءاً بعد سوء، ولم تقتنع بنصائح الأسرة، وظلت وحيدة فى غرفتها لا تفارقها إلا للضرورة القصوى، وفكرت فى مرضها ومستقبل ابنتها الصغيرة، وكرهت المنزل، بل كرهت المحافظة بأسرها، فحملت الطفلة وما معها من نقود وتوجهت إلى محطة القطار، لا تعرف أين تذهب، فوجدت قطاراً متجهاً إلى محافظة سوهاج، وركبت فيه، وبعد ثلاث ساعات وجدت نفسها
على محطة سوهاج بعدما أغلقت تليفونها المحمول حتى لا تعرف أسرتها أين تكون.سألت عن فندق متوسط للإقامة به، فأخبرها أهل الخير عن عنوان أحد الفنادق، فتوجهت للإقامة فى الفندق بعدما طلبت من المسئول، شهراً باعتبارها تعمل أبحاثاً فى الجامعة، واستمرت لأسبوعين متواصلين فى مكانها، تفكر ماذا تفعل، حتى هداها تفكيرها الشيطانى للانتحار بالسم، ولكن ماذا تفعل الصغيرة بعد موتها؟ ومن سيأخذها؟ وما فائدة حياة الطفلة دون أب أو أم؟ لماذا لا تقتلها؟ ولكن هل تقتل فلذة كبدها بيديها؟ ولمَ لا حتى تكون معها فى العالم الآخر؟ ولماذا التردد؟
دقائق معدودة لم تستطع أن تكمل حديثها مع نفسها فأحضرت السم لتتجرعه بعدما تقوم بقتل طفلتها، ثم امتدت يداها إلى رقبة الطفلة النائمة وقامت بخنقها ولكنها لم تستطع أن تأخذ السم، فقد عادت لرشدها وظلت تصرخ ليلاً، حتى استيقظ سكان الفندق، وهرع الموظفون إلى غرفتها، وأمسكوا بها، وأبلغوا اللواء عمر عبدالعال مدير أمن سوهاج بالواقعة.
أمام اللواء خالد الشاذلى مدير مباحث سوهاج اعترفت بجريمتها تفصيلياً وبررتها بالظروف النفسية التى مرت بها، وقامت بتمثيل الجريمة أمام النيابة العامة فأمرت بحبسها أربعة أيام على ذمة التحقيقات، جددها قاضى المعارضات خمسة عشر يوماً.
تقبع «أميرة» داخل الحجز ولكن فارقتها طفلتها، قتلتها بيديها ولا تعرف أين ذهبت جثتها، وأين دفنت فأسرتها لا تعرف عنها شيئاً، وهى لا تعرف عن مقبرة طفلتها شيئاً. حاولت الانتحار عدة مرات خلال الأيام القليلة التى قضتها فى الحجز ولكن تمكن الحراس من إنقاذها.. لا هم لها سوى انتظار الموت.. ولا كلام تردده سوى أنها تريد اللحاق بابنتها وترفض تناول الطعام والشراب والدواء.. لم تعد تنتظر أى شىء سوى الموت بعد أن كانت تنتظره منذ سنوات تحولت إلى قاتلة.