مصراوي

2025-02-02 19:15

متابعة
انتحار موظف الأوبرا

البطل الملحمي هو الذي يأتي في زمانه ومكانه الصحيحين، ويُواجه بشجاعة تامة وجسارة كبيرة كل التحديات والصعوبات التي تواجهه في حياته، كي يُحقق ما يريد، ويصل لهدفه، وينجح في حياته، ويصنع أسطورته الخاصة، التي سوف تروى من بعده. وهو إنسان مقاتل، لا يعرف الهروب أو الاستسلام لظلم وقبح الأمر الواقع؛ ولهذا يُثير فينا مشاعر الاحترام والتقدير، ويجعلنا نُعظّم قيم الفروسية والإصرار، والمُثابرة والشجاعة التي تتجسد في حياته وخياراته.

أما البطل التراجيدي، فهو مَن يأتي في غير زمانه ومكانه، ولذا يُعاني في داخله بسبب غربته عن سياقه وعصره، دون أن يُظهر ذلك للآخرين، ويستمر في الإيمان بذاته ومبادئه، وفي مغالبة واقعه وقدره. وسيان عنده إن وصل لهدفه أم لم يصل، فيكفي أنه عرف ذاته وهدفه وطريقه، وظل من البداية للنهاية هو لا غيره؛ ولهذا فهو يُثير فينا الإعجاب لتصميمه وقوة إرادته، ويثير فينا في ذات الوقت الكثير من مشاعر التعاطف؛ لسوء حظه وتعثر مسيرته، رغم نبل أخلاقه وسمو وسائله وهدفه.

لكن البطل الملحمي والتراجيدي كما صورتهما الملاحم والتراجيديات الإنسانية الكبرى، قد صارا في عصرنا الحالي نموذجين نادرين نتيجة فقر وبؤس الواقع المعاصر، وهشاشة تصور الإنسان لذاته وقيمته وهدف ومعنى حياته؛ ولهذا عرفت الآداب المعاصرة نموذجًا جديدًا للبطولة، هو نموذج "البطل الضد"، الذي فقد شجاعة الوجود، وفتوة الروح والعقل، وقوّة الإرادة والرغبة في مواصلة الرحلة، ولم يعد مشغولًا بصنع ملحمته وأسطورته بعد مغالبة قدره وواقعه، بل صار مسكونًا بهزائمه الشخصية والعامة، ومشاعر المرارة وخيبة الأمر، ومستسلمًا لقدره ومصيره.

والبطل الضد هو "بطل هذا الزمان"، وأفضل تعبير عن حالة الإنهاك الوجودي التي صار يعيش فيها الإنسان المعاصر الذي لم تعد تُغرية لعبة الاستمرار في الحياة، وتحول إلى إنسان مهزوم لا مبالٍ، يتفرج على الحياة من دون أن يشارك فيها، أو البطل الضد المهزوم الذي قرر من دون مقدمات إنهاء حياته هروباً من عبء الحياة وظلم وقبح الناس والأمر الواقع.

ورغم تعاطفي الشخصي مع نموذج البطل الضد المهزوم، وتفهمي لدوافعه ومبرراته، فإنني أرفض الاستسلام لجاذبية هذا النموذج الإنساني، وأرى أن البطولة الروحية للإنسان المؤمن بوجود الله وعدالته وقدرته، تحتم عليه عدم الاستسلام لقبح وظلم الناس والأمر الواقع. كما تُحتم عليه محاولة أن يصبح بطلًا ملحميًا أو تراجيديًا، وأن يسأله الله باستمرار بداية جديدة، وقدرًا جديدًا؛ ليقينه الراسخ بأن الأقدار والمصائر في ملكوت الله لا متناهية كذاته وقدرته.

وبناء على كل ذلك، ورغم تعاطفي الإنساني مع موظف الأوبرا المنتحر مؤخرًا بإلقاء نفسه في نهر النيل نتيجة إحساسه بالظلم والقهر الذي مارسه عليه أحد رؤسائه في العمل، ورغم دعوتي لمساءلة وعقاب المسؤول عن دفعه لهذا الاختيار القاسي، ودعوتي أيضًا لتغيير وتحسين بيئة العمل الحكومي في مصر والقضاء على ما يسود فيها من ظلم ومجاملات ومحسوبية تمتهن الإنسان، فإني أرفض تمامًا وأُدين سلوك موظف الأوبرا المنتحر الذي جسد بالنسبة لي بطلًا ضداً مهزوماً بامتياز؛ لأنه سلوك يكشف عن هشاشة إنسانية وفكرية ودينية لا تليق بالإنسان الذي كرمه الله بالعقل والإرادة الحرة، وخلقه على صورته، الإنسان الذي يؤمن بأن رفض ظلم وقبح الناس والأمر الواقع والثبات في مواجهة الشدائد ومصاعب الحياة، وعدم الانهيار النفسي في مواجهتها، هو عمل من لَوازِم الإيمان بالله، وعمل من صُلْب وأصل الرجولة والكرامة الإنسانية.

الأخبار المتعلقة

  • وجودنا وعالمنا المقلوب

  • وزراء ثقافة مصر

  • صورة المثقف في وعي السلطة

  • الإسكندرية.. مدينة الحب والفقد

للإطلاع على النص الأصلي
43
0
مشاركة
حفظ

آخر الأخبار

أحدث الأخبار

    أحدث الفيديوهات