مصراوي

2025-02-02 20:15

متابعة
«المحلف رقم٢».. يضرب في المؤسسة القضائية الأمريكية

هنا، بفيلم «المحلف رقم ٢» Juror #2 للمخرج كلينت إيستوود، نرى المتهم، رجل أربعيني وهو يتشاجر مع حبيبته في إحدى الحانات، في ليلة ماطرة عاصفة، البعض في الحانة صور الشجار العنيف بهاتفه، في الصباح التالي وُجدت الحبيبة مقتولة بالغابة بجوار الطريق السريع، ومباشرة وجهت أصابع الاتهام للحبيب. وبالطبع ماضيه في العنف والجريمة سيدعم بقوة الاتهام الموجه إليه، رغم أنه أصبح إنساناً صالحاً.

هل ينفصل المحلفين الـ١٢ عن الوقائع وأدلة الإدانة التي تُقدمها نائبة المدعي العام؟ خصوصاً أنه لم يتم طرح بديل في الاتهام؟ يصعب ذلك. فأسلوب المدعي في طرح أدلة الإدانة يُوجه المحلفين، ويساعد على ذلك إخفاء أو غياب معلومات، إضافة لشهادات البعض التي تحمل تحيزات، أو تكون غير دقيقة بسبب نفوس أصحابها أو كبر سنهم أو عدم رؤيتهم، والتي أحياناً تنجح رغم عدم دقتها في تثبيت الإدانة والحكم بالإعدام.

بعد أن وافق ١١ عضواً من هيئة المحلفين على إدانة المتهم التي رأوها بديهية ولا تحتاج أي نقاش، احتج الأخير- رقم ٢ - قائلاً: الرجل سيذهب إلى المشنقة فيجب علينا حتى نكون متأكدين أن نُعطيه بعض الوقت.

هذا الرجل هو «المحلف رقم ٢» حقيقة لم يكن يتلاعب بزملائه المحلفين، لكنه الآن يواجه معضلة أخلاقية تهز عالمه وعالم أسرته. فقد اكتشف في قاعة المحكمة أنه نفسه هو القاتل. لأنه في تلك الليلة الماطرة كان في ذات الحانة التي شهدت الشجار بين الحبيبين، كان في حالة نفسية سيئة لأن زوجته فقدت للتو طفليهما التوأم يوم الولادة، طلب شرابه المفضل الذي كان قد أقلع عن إدمانه، قاومه لبعض الوقت، انتصر وانصرف، لكن أثناء قيادة السيارة على الطريق السريع الضيق في الظلام ومع المطر والعواصف ورنين الهاتف اصطدم بجسد قوي فتخيل أنه اصطدم بغزال بينما الحقيقة أنه اصطدم بالمرأة.

الآن، في قاعة المحكمة فقط، يدرك المحلف الثاني أنه هو القاتل الحقيقي عن طريق الخطأ. وأن هذا الرجل بريء. فيُصاب بالتوتر، والأرق ويُحاصره الشعور بالذنب، يلجأ إلي صديق محامي ليكون موكله، فينصحه صديقه بعدم الإفصاح أو الاعتراف لأنه سيٌحكم عليه بما لا يقل عن ٣٠ عاماً، وأن ماضيه مع إدمان الكحول سيُوضع في الاعتبار رغم أنه أقلع عن الإدمان.

إذاً، للمرة الثانية القانون نفسه يٌحاكم الناس على ماضيها، لا يعترف بالتغيير في حياة الناس، الحبيب المتهم كان ماضية دليل إدانة، و«المحلف رقم اثنين» سيكون ماضيه دليل إدانة، رغم أن الاثنين قد تجاوزا الماضي وأصبحا رجلين صالحين. كذلك الناس يٌحاسبون الإنسان على ماضيه، يضعونه في إطار فيرسمون له صورة جامدة ويحكمون عليه للأبد، حتى لو تغير هذا الإنسان. سيظل أسير ماضية بسبب محاكمة الناس. وهذا ما يثبته الفيلم.

أما شاهد العيان الوحيد أثناء واقعة الاصطدام الذي تم ليلاً في ظلام كالح مع المطر، وعلى بعد مسافة منه فكان رجلاً مسناً، اتضح في النهاية أنه لم ير وجه القاتل، لكنه فقط استجاب لسؤال رجال الشرطة الذين كانوا يحملون صورة المتهم فأجابهم العجوز بما يريدونه، ربما ليشعر بأهميته.

هيئة المحلفين نفسها تُعد معضلة أخرى، المفروض قانوناً ألا تربطهم أي سابق معرفة أو علاقة بالمتهم، لكن بعضهم له تحيزاته، بعضهم يكذب ولا يقول الحقيقة فيما يخص علاقته بالمتهم، رغبة في الثأر، وهذا ما يُثبت من شخصية رجل قُتل أخيه الصبي في سن ١٤ عاماً بسبب المخدرات التي كان المتهم يشارك في ترويجها مع إحدى أشهر العصابات بالمنطقة، وذلك قبل أن يتوب المتهم ويتحول لرجل صالح، هنا الأخ المكلوم لموت أخيه، يرى أن هذا المتهم إذا ذهب إلي حبل المشنقة فهذا تنفيذ للعدالة حتى لو كان بريئاً من التهمة الحالية.

على صعيد آخر، أغلب المحلفين يعتبر تلك المداولة لإصدار الحكم - بالإدانة أو عدم الإدانة - هو عمل روتيني، ولا يفكرون في أن روح إنسان بين أيديهم، وأن قرارهم قد يقتل بريئاً. فكل ما يشغلهم حياتهم الخاصة ومشاغلهم وهمومهم، فهناك أم تريد أن تعود لأطفالها سريعاً، وهناك رجل تحريات أو شرطي تحريات بين المحلفين، رغم أن هذا غير قانوني لأنه قام بالتحري والبحث عن أدلة جديدة، وهذا ممنوع قانوناً، وإن كان له الفضل في كشف جانب سيء من عملية البحث القانونية عن الأدلة من قبل محامية المدعي، وأكد على قصور عمل تلك المحامية، وإن كان هذا الرجل المتحري يتحمل جزءاً من الذنب فمحامي الدفاع والمدعي يتحملان جزءاً آخر لأنهما اكتفيا بمعرفة مهنته الحالية ولم يسألا عن مهنته السابقة.

إذاً غير مفهوم، وليس في صالح قرار الحكم، أن المحكمة لديها أمور غير مسموح بها تخص لجنة المحلفين الــ١٢، فممنوع عليهم البحث أو التحري أو قراءة أخبار عن القضية، بينما الحقيقة أن بعضهم قرأ وأنكر، وبعضهم قام بالتحري، وحتى الحكم بعدم الإدانة الذي وصلوا إليه في مرحلة من النقاش - قبل النهائي - كان منصفاً أساساً بسبب التحري والمعاينة واكتشاف معلومات لم تصل إليها محامية الادعاء وهو تقصير منها. أليس في موانع المحكمة فيما يخص لجنة المحلفين أمور غير عادلة.

إذاً، كل ما سبق، يفجر علامات استفهام حول مفهوم العدالة؟ والحقيقة؟ وهل الحقيقة تقود لتنفيذ العدالة؟ وكيف سيتصرف هذا المحلف الثاني؟ هل سيضحي بأسرته ويدمر حياته لينقذ حياة بريء من حبل المشنقة؟ لكن أهم الأسئلة التي تطرح نفسها بمشاهدة هذا الفيلم: هل حقاً المؤسسة القضائية الأمريكية تتبع الخطوات الصائبة لإنفاذ القانون؟ أم أنها بحاجة لإعادة النظر فيما يشوبها من عيوب فادحة قد تقود إنسان بريء إلى حبل المشنقة؟؟

حقيقة المقارنة مع فيلمي سيدني لوميت

بقي شيء: يُلمح البعض إلى أن الفيلم مستلهم من فيلمين للمخرج سيدني لوميت أخرجهما في إطار السينما القضائية: باكورته الإخراجية «١٢ رجلاً غاضباً» ١٩٥٧، وفيلمه الأخير «الحُكم» ١٩٨٢، من واقع مشاهدتي للأفلام الثلاثة في يوم واحد للمقارنة بينهم، أجد أنه لا وجه أصلاً للمقارنة بين «الحكم» و«المحلف رقم ٢» فالموضوعات مختلفة تماماً، ففي الأول الفساد واضح في المؤسسة القضائية ذاتها كما بين المحامين، ويكاد يشبه «ضد الحكومة» - الفيلم المصري في بعض التفاصيل - حيث محامي فاشل يسعى لإدانة إثنين من الأطباء تسببا في إصابة امرأة شابة بالغيبوبة وفشل القلب أثناء إجراء عملية الولادة، والمحامي هنا يسعى للإدانة حتى يستحوذ على مبلغ تعويض بعد المساومات مع الجهات المخطئة، لكن ضميره يستيقظ في لحظة تأمل للضحية الشابة التي فقدت حياتها بينما لاتزال ترقد على سرير، وفي أنفها وفمها تمتد الخراطيم كالثعابين الملتوية، وأثناء ذلك يناضل المحامي لكشف منظومة الفساد في مجال الطب والمحاماة والقضاء. كما أن الأحداث تدور في أماكن مختلفة ومتعددة.

صحيح هناك تماس بين «المحلف رقم ٢» و«١٢ رجلاً غاضباً» خصوصاً في كشف عيوب اختيار هيئة المحلفين الــ١٢، لكن لكل من الفيلمين هويته السينمائية المستقلة تماماً وتيمته المغايرة، كل منهما له نقاط قوته وجمالياته الإنسانية والسينمائية، وحججه القضائية، وإن كان «١٢ رجلا غاضباً» - الذي صنع منتصف القرن الماضي - يُعد الأصعب في التنفيذ لأن الفيلم بأكمله - باستثناء لقطة واحدة- يدور في قاعة مغلقة على المحلفين الـ١٢. مع ذلك لا نتململ في جلستنا ونظل متيقظين للجدال المتصاعد والمحتدم وتعقيدات الشخصيات والصراعات بينهم التي تكاد تبلغ الاعتداء الجسدي. بينما تدور أحداث المحلف الثاني في أماكن متعددة ورغم أهمية دور نيكولاس هولت ونائبة المدعي العام توني كوليت لكن يظل البطل الأساسي الموضوع الذي يُدين بشكل مصقول شفيف العيوب والشوائب التي تُحيط بالمؤسسة القضائية الأمريكية.

الأخبار المتعلقة

  • «المحلف رقم٢».. للعملاق كلينت إيستوود ولماذا يحاولون دفنه؟!

  • كلينت إيستوود.. المتمرد الأمريكي تحدى هوليوود وصنع إرثه الخاص

  • «المصارع » ٢ .. الإيرادات الضخمة لا تمنعنا من التفكير والمقارنة

  • «حدود الله» التونسي بالمسابقة الوطنية لأيام قرطاج السينمائية الــ٣٥

للإطلاع على النص الأصلي
40
0
مشاركة
حفظ

آخر الأخبار

أحدث الأخبار

    أحدث الفيديوهات