لم يحمل محمد عبدالله فى قلبه أى أطماع دنيوية، فهو لا يملك رفاهية الأحلام الكبيرة؛ كان عاملًا باليومية، يقضى نهاراته فى الشوارع، ويعود فى المساء بـ«حِزمة من الجنيهات» بالكاد تكفى قوت يومه، لكنه لم يتوقف يومًا عن الأمل حتى وقع فى فخ «FBC».
فى إحدى الليالى، بينما كان جالسًا فى المقهى، اقترب منه صديقه «محمود»، الذى بدا عليه شيئًا من الثراء المفاجئ بـ«هاتف جديد، وملابس أنيقة، وساعة لامعة لم يرتد مثلها من قبل»، نظر إليه «محمد» وهو يقول: «إيه يا محمود، ربحت فى اليانصيب ولا إيه؟»، بينما كان الأخير ينظر إلى نفسه متفاخرًا، ليرد عليه بصوت واثق: «حاجة أحسن من اليانصيب يا صاحبى! حاجة مضمونة.. استثمار مضمون، فلوسك بتزيد لوحدها، من غير شغل ولا تعب».
علقت كلمة «مضمون» فى ذهن «محمد» متعجبًا: «هل هناك فى الدنيا أى شىء مضمون سوى الفقر؟.. طب إزاى؟»، فأجابه محمود: «شركة اسمها FBC، كل اللى عليك إنك تستثمر مبلغ، وأول كل شهر فلوسك هتزيد.. الموضوع بسيط، ومش لازم تفهم فى البورصة ولا أى حاجة، إحنا ناس غلابة، بس ربنا رزقنا بالطريقة دى»، وبدأ يحكى له كيف بدأ مع هذه الشركة بمبلغ صغير، ثم سحب أرباحه منها بعد أسبوعين، ثم ضاعف استثماره، ومع كل كلمة كانت الأحلام تلف مخيلة محمد وهو يفكر فى المستقبل الباهر والأموال الوفيرة فى جيبه، لكنه لا يعلم أن كل شىء حوله كان مجرد مسرحية متقنة، وأنه دون أن يدرى كان على وشك أن يصبح أحد أبطالها فى عالم ليس له واقع.
فى اليوم التالى، لم يذهب محمد إلى العمل، وبدلًا من ذلك أمضى يومه يجمع المال، حتى استدان من أصدقائه، وباع هاتفه القديم، واقترض من شقيقته، ووضع كل ما يملك فى هذا «الحلم الجديد»، حتى نجح فى أن يجمع ٣٧ ألف جنيه، وعده محمود «هتقبض زيهم كل شهر؟!».. كان الرقم مغريًا؛ فهو بالكاد كان يحصل على ٣ آلاف جنيه فى الشهر من عمله، وإذا نجح هذا الاستثمار، فسيكون هذا أول انتصار حقيقى له فى حياته.
لكن، كما هو الحال دائمًا، حين يكون العرض جيدًا أكثر من اللازم، فإنه غالبًا ما يكون خدعة، لم يكن محمد وحده الذى وقع فى فخ للنصب»؛ فداخل قريته الصغيرة، كان الخبر ينتشر بسرعة النار فى الهشيم، إذ أودع مصطفى، مدرس - هو الآخر- كل مدخراته فى هذه المنصة بعدما سمع عن الأرباح الخيالية منها، وهو يحدّث نفسه: «العائد الشهرى أكتر من مرتبى، يبقى ليه لأ؟»، ونفس الحال مع أم إبراهيم، أرملة تعيش على معاش زوجها، أقنعها ابنها بالدخول بكل ما تملك« فرصة يا أمى.. بدل ما نفضل عايشين على الكفاف!»، كما استدان رمضان، معلم اللغة العربية فى بنى سويف، ٤٥ ألف جنيه من أحد معارفه، بعد أن أقنعه ابن شقيقته بأن هذه فرصته للخروج من أزماته المالية.
«إحنا اتعلمنا الأدب، النصابين دول ربونا»، هكذا قال «رمضان» بأسى حين أدرك الحقيقة متأخرًا، لم تكن هذه مجرد استثمارات عادية؛ بل كانت رهانات يائسة من أناس لم يكن لديهم سوى الأمل، وكانت هذه المنصة تتاجر بهذا الأمل ببراعة شيطانية، فكانت تعمل بنظام «التسويق الهرمى» وهو أسلوب احتيالى قديم لكن بواجهة حديثة «يدفع المشترك مبلغًا معينًا، ويحصل على عائد مرتفع فى البداية لجذب المزيد من الناس، وثم يُطلب منه إحضار مشتركين جدد لمضاعفة أرباحه»، وبمجرد أن يتوقف تدفق المشتركين الجدد ينهار النظام، ويفقد الجميع أموالهم.
هذه الخطة لم تكن واضحة منذ البداية؛ بل كانت محكمة، ومدروسة بعناية، مصممة لجعل الضحايا يشعرون بالأمان قبل أن يتم تجريدهم من كل شىء، وكان «محمد» ينتظر أرباحه الأولى بفارغ الصبر فى يوم السحب الأول، فتح التطبيق ليجد رصيده ممتلئًا، لكنه لم يتمكن من سحب أمواله، وأرسل استفسارًا إلى الدعم الفنى، فجاءه الرد: «هناك تحديثات أمنية على النظام، سيتم حل المشكلة قريبًا»، لينتظر يومًا، ثم يومين، ثم أسبوعًا، هنا بدأت الشائعات تنتشر، وبدأ الجميع يشعر بالخطر، لتأتى الصدمة الكبرى: «اختفى التطبيق.. اختفت الصفحة الرسمية للمنصة.. وتبخرت الأموال».
«محمد» لم يكن وحده الذى وقف مذهولًا أمام شاشة هاتفه، عاجزًا عن استيعاب ما يحدث؛ فآلاف الأشخاص من المحافظات كافة؛ وجدوا أنفسهم فجأة على الحافة، بعد أن تحوّلت مدخراتهم إلى أرقام فى الهواء، وديونهم أصبحت واقعًا يطاردهم، ولم تكن خسارة المال وحدها المشكلة؛ بل كان هناك ما هو أشد قسوة.. فـ«صباح»، أرملة فى الستين من عمرها، باعت منزلها لتضع أمواله فى المنصة، وحين اكتشفت الخدعة، لم تتحمل الصدمة، وأصيبت بأزمة قلبية فارقت على إثرها الحياة، وتركت أبناءها دون سقف يحميهم.
اثنان من الضحايا
وبين ليلة وضحاها تبددت أحلام أحمد حسين، شاب فى بداية العقد الثالث من عمره، فى الثراء السريع، وخسر «تحويشة» عمره التى راهن بها عبر «FBC»، بعدما استيقظ على كابوس لا يصدقه حتى الآن - بإغلاق المنصة، ووقوعه وآلاف المواطنين من حوله فريسة لـ«سيناريو النصب الإلكترونى المتكرر».
فى أحد شوارع القاهرة التقى «أحمد» صديقه «أبو أسيل»، الاثنان يعملان فى مهنة توصيل الطلبات، ودار بينهما حديث طويل حول منصة «FBC»، والأرباح المغرية التى تقدمها مقابل تثبيت مهام بسيطة بشكل يومى، واقتنع بالفكرة، خاصة أنه على أعتاب زواج خلال أشهر قليلة، ودخله لا يكفيه، ويحتاج للأموال حتى يستكمل التجهيزات.
اقتنع «أحمد» بالفكرة، ودخل مع صديقه اللُعبة، وفى البداية كان حذرًا، حتى استقبل أول ربح، ومن هنا بدأ يفكر فى جذب المزيد من المشتركين، وأقنع خطيبته بالدخول معه كفرد ثانٍ، على أن يتولى هو دفع الاشتراك وسحب الأرباح، آملين فى أن يجمعهما عش الزوجية سريعًا، وبنفس السرعة تبخر كل شىء.
روى «أحمد» لـ«المصرى اليوم» رحلة سقوطه فى فخ النصب الإلكترونى، قائلًا: «أعمل طيار طلبات، واليومية ٢٠٠ جنيه بعد شقى أكثر من ١٠ ساعات، واشتركت فى المنصة واثقًا فى زميلى، وبعدما سمعت رأى أحد المشايخ على المنصة يحلل العمل بها، وهو ما شجعنى.. حصلت على قرض بقيمة ٢٧ ألف جنيه، وآخر بقيمة ١٠ آلاف لخطيبتى، واشتركت لمدة شهر واحد فقط، وفى البداية دفعت ٣٦٠٠ جنيه وحصلت على ربح ٢٨٠٠ جنيه، وهو ما زاد رغبتى فى رفع قيمة الاشتراك؛ باعتباره عملا مستمرا ومضمونا».
«أحمد» أوضح أنه استقطب ٨ من زملائه، بهدف مساعدتهم على العمل والربح، إلّا أنه فوجئ قبل أسبوع بتوقف الأرباح بحجة وجود احتفالات بـ«عيد الشجرة البريطانى»، وبعدها أُغلقت المنصة بشكل نهائى وخسر أمواله، مستدركًا: «عيد الشجرة كانت طريقتهم عشان ينصبوا علينا، مش قادر أستوعب إن اتنصب عليا بطريقة ساذجة كده، لكن تعلّمت الدرس إننا نسعى ونبعد عن طريق التطبيقات دى، كنت زى أى شاب بكوّن نفسى ومطلوب منى فرح ومستلزمات جواز، وشوفت فى التطبيق ده فرصة تسند معايا، لكن اللى حصل غير اللى كنت متوقعه.. نصبوا علينا.. كانت رسالتهم واضحة إنهم نصابين لكن الحلم والسعى وراء الثراء السريع كان معطل تفكيرنا، رسالتى للجميع نرضى بالمقسوم وبلاش استعجال».
سعاد الهادى، صاحبة كوافير فى محافظة الدقهلية، بين ضحايا المنصة الشهيرة، أضافت أنها اشتركت من خلال ترشيح صديقتها المقربة، بعدما أقنعتها بوجود برنامج إلكترونى يمنح المشتركين أرباحًا قيمتها ٩٠٠ جنيه شهريًا و٣٠ جنيها يوميًا، مقابل الاشتراك بـ ٩٠٠ جنيه، ونظرًا لضعف دخلها ومسؤولياتها، وافقت وبدأت إقناع من حولها بالاشتراك معها لتفوز بالأرباح.
وأشارت «سعاد» إلى أنها انضمت إلى المنصة فى بداية فبراير الجارى، ودفعت ١١ ألف جنيه، وخلال تلك الفترة سحبت الأرباح مرتين بقيمة ٤٠٠ جنيه كل أسبوع، وفى الأسبوع الثالث فوجئت بإغلاق المنصة، وبرر المسؤولون عنها ذلك بتعرّضها للاختراق، وضرورة الشحن من جديد لتعمل، لكنها رفضت واكتشفت تعرّضها للنصب، موضحة أن تلك المنصة تعتمد على تنفيذ ٥ مهام بشكل يومى، مقابل ربح ٣٠ جنيهًا، بالإضافة إلى ١٠٨ جنيهات عن كل شخص يشترك معها، و٢٨٠٠ جنيه لكل ١٥ شخصًا، و١٨ ألفًا لكل ١٠٠ شخص، ومع زيادة عدد المشتركين عن طريقها تعتبرها إدارة المنصة «موظفة»، وبالتالى تمنح لها امتيازات أخرى.
وأكدت «سعاد» أنها أقنعت ٧ أشخاص آخرين للاشتراك معها فى المنصة، بإجمالى ٩ آلاف جنيه، بينهم زوجها، الذى اشترك لمدة يوم واحد، وبعد كشف الحقيقة نشبت بينهما خلافات بسبب سقوطهما فى فخ النصب، متابعة: «أنا شغالة فى تساهيل، والمبلغ اللى دفعته كان تحويشة علشان أشترى كرسى جديد فى الكوافير بتاعى وأجيب واحدة تساعدنى، وجوزى ساب البيت علشان زعل إنى وثقت فى ناس مش أمينة، وهو مديون بقروض كتير».
مينا فتحى، أحد ضحايا المنصة، بعدما أقنعه أحد زملائه بتحصله على أرباح خيالية ومضمونة، قال إنه دفع ١١ ألف جنيه تحصل عليها بعد اشتراكه فى إحدى الجمعيات، وبعدها فوجئ بغلق المنصة، موضحًا أن صديقه أغراه بالحصول على ٥ آلاف جنيه خلال ٧٢ ساعة بمناسبة شهر رمضان؛ حال اشتراكه.
وأشار «مينا» إلى أنه حرر محضرًا بالواقعة مع عدد من زملائه المتضررين، مردفًا: «مكنش قدامى حل تانى، فى ناس كتير على قد حالها اشتركت هى كمان، وواحد أعرفه باع موتوسيكل بـ ٤٠ ألف جنيه واشترك بيها كلها، إحنا ضيعنا ومستقبلنا ضاع».
من هنا انهالت البلاغات تنهال على الشرطة، وبدأ البحث عن القائمين على المنصة، إذ كشفت التحقيقات أن هناك ١٣ متهمًا رئيسيًا، بينهم ٣ أجانب، كانوا يديرون العملية من خارج مصر، أمّا داخل البلاد؛ فتم القبض على عدة وسطاء محليين، بينهم شاب لم يتجاوز الـ ٣٠ من عمره، كان مجرد سائق «توك توك» قبل بضعة أشهر، لكنه أصبح مليونيرًا بسبب خداع الناس، وحين سألت الجهات الأمنية أحد المحتالين عن سبب فعلته، قال بكل برود: «إحنا معملناش حاجة غلط.. هم اللى كانوا طماعين».
تحولت منصة FBC إلى مجرد ذكرى مؤلمة، بعد أن ضاعت أموال الضحايا، وهرب المحتالون، ولم يتبقَ سوى حكايات الفقر، والخيبة، والندم، وفق روايات المجنى عليهم، بينما نجحت وزارة الداخلية، فى القبض على ١٣ متهمًا بالنصب على ١٠١ مواطنين، والاستيلاء على أموالهم والتى بلغت نحو مليونى جنيه، بزعم استثمارها فى مجال البرمجيات والتسويق الإلكترونى، وإيهامهم بأرباح مالية كبيرة.