«مش عايزة حاجة كبيرة.. عايزة هدومي وهدوم عيالي، وحيطة تلمّنا أنا وعيالي».. بهذه الكلمات، وقفت «أم مريم» تُحدّق في الواجهة المتشققة لمنزلها الذي لم يعد منزلًا، في شارع أبوسيف بمنطقة حدائق القبة في القاهرة، عقب انهيار ثلاثة عقارات. كانت تتلفّت بعينيها، كأنها تبحث عمّا تبقّى من حياتها، بينما تنهار الحجارة بصمت تحت أقدام رجال الإنقاذ، ويعلو في الأفق صوتُ صراخٍ لا يجد صداه.
قصة أم فقدت شقتها بعد تعويض وفاة زوجها في حدائق القبة
كانت قد خرجت لدقائق فقط لتشتري الخبز، وفي منتصف الطريق، اتصلت بها ابنتها الكبرى، «مريم»: «يا ماما، البيوت وقعت!».. لم تستوعب، فسألت: «أي بيوت؟».. لكن صوت ابنتها كان ينهار، ومعه انهار شيءٌ في داخلها.
«لقيت مريم بتصرّخ، مش قادرة تتنفس. نقلوها المستشفى وادّوها مهدئات، وأنا قلبي كان بيتقطع وأنا ماشية، جسمي بيرتعش، وحسّيت إني مش شايفة الطريق من دموعي».
كان ذلك البيت شريانها الأخير، شقة حصلت عليها بعد 13 عامًا من المعارك القضائية، إثر وفاة زوجها في حادث أثناء عمله بهيئة النقل العام. تقول أم «مريم»: «جوزي مات وسابنا، وأنا قعدت ألفّ على حقي سنين. لما خدت التعويض والشقة، حسّيت إني بدأت أتنفس من جديد، كأنني رجعت أقف على رجلي، ولو في شقة صغيرة».
لكن الشعور بالأمان لم يدم طويلًا. تقول إن العقارين اللذين انهارا كانت حالتهما معروفة، والجميع في الحي كان يعلم أنهما آيلان للسقوط: «الحي كان بييجي يصوّرهم، وكانوا يقولوا لنا: (سيبوهم يوقعوا لوحدهم).. وكأن أرواحنا ما تسواش حاجة».
كانت تمرّ كل يوم من أمامهما، برفقة ابنها «ماريو»، الشاب العشريني الذي يستعد لعملية جراحية، أو في طريقها لشراء الدواء: «ابني لسه شاب صغير، ومحتاج يعمل عملية ضروري، ومريم بنتي متخرّجة ولسه بتدوّر على شغل. إحنا نقدر ننام في الشارع؟». (يمكنكم متابعة المزيد من خلال هذا الفيديو بالضغط هنا).
«أم مريم» تحكي مأساة انهيارات عقارات حدائق القبة
تتوقف قليلًا، تُخرج ورقة مطويّة من حقيبتها – نسخة من حكم المحكمة الذي بموجبه حصلت على التعويض ثم الشقة، ثم تتابع: «الساعة كانت 11 وربع تقريبًا. كنت في فرنة العيش القريبة منّا، وحسّيت الأرض بتتهز، وسمعت صوت كأن البيت بيتنهار من جوّا. خرجت، لقيت الشارع مغطّى تراب، وصريخ الناس بيقطع القلب».
شقتها لم تسقط، لكنها تصدّعت، أما الشقة الكائنة أسفلها فقد اختفت تمامًا: «كنت عايزة بس أطلع هدومي، مفيش حاجة تانية.. قالولي ممنوع، البيت ممكن يقع. طب نلبس إيه؟ ننام فين؟».
ورغم أن منزلها لا يزال قائمًا، إلا أنها لا تفكر في العودة إليه. تقول أم مريم: «أنا مش هرجع أعيش في بيت كل شوية أبصّ للسقف وأسأل: إمتى هييجي دوري؟».
حين وصلت فرق الإنقاذ، كانت الكارثة قد وقعت بالفعل: «طلعوا 3 جثث، ولسه في ناس ما خرجوش. في أمهات زيّي واقفين وبيستنّوا جثث أولادهم، حتى لو ميتين، المهم يودّوهم بإيديهم».
تتحدث «أم مريم»، ثم تصمت فجأة. تنظر إلى الأرض، كأنها تحاول أن تستوعب أين تقف الآن: «أنا خلاص.. ماعيش فلوس أبدأ من جديد، ولا مكان أروح فيه. كل اللي طالبة حيطة أعلّق فيها هدومي، وأعمل العملية لابني». (يمكنكم متابعة المزيد من خلال هذا الفيديو بالضغط هنا).
انهيار منزل يهدد حياة أم وابنيها في حدائق القبة
في حقيبتها الصغيرة، تحتفظ بشهادة وفاة زوجها، وبأوراق قضيتها القديمة، وبعلبة دواء لابنها: «ليه لازم ندفع التمن مرتين؟ مرة لما فقدت جوزي، ومرة لما فقدت اللي بناه دمه؟».
وحين تُسأل عمّا إذا كانت قد حصلت على أي دعم بعد الانهيار، تهز رأسها نفيًا وتقول: «أنا واقفة من ساعة سقوط البيوت، لا حدّ سأل، ولا حدّ قال لي أروح فين. (أنا مش بقول ادّوني قصر.. بس حتى أوضة آمنة أضمّ فيها عيالي)».
ثم بصوتٍ أقرب إلى الهمس، تضيف: «نفسي أخلّص ماريو من العملية دي، نفسي مريم تقعد في أمان، من غير ما تبصّ للسقف وتخاف يقع عليها. نفسي نعيش من غير رعب. (أنا عايزة أمل.. مايتكسرش كل شوية قدامي)». (يمكنكم متابعة المزيد من خلال هذا الفيديو بالضغط هنا).
وقبل أن تنهي حديثها، تتوقف لثوانٍ، تنظر إلى الجدران المفتّتة، ثم تهمس وكأنها تخاطب المدينة كلها: «هو أنا لازم أصرّخ علشان حد يسمعني؟ أنا وعيالي.. هروح بيهم فين؟». (يمكنكم متابعة المزيد من خلال هذا الفيديو بالضغط هنا).