دخلت معاناة غزة المستمرة منذ عقدٍ من الزمن مرحلةً جديدة، يجري فيها التضحية بحياة الأطفال الرضع الضعفاء في صراعٍ سياسي على السلطة يحدث خارج أسوار غزة المحاصرة، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة The Guardian البريطانية.
ترصد الصحيفة البريطانية في تقريرها تكدس أطفال صغار في الحاضنات، يكابدون من أجل الحياة وسط شبكة من الأنابيب المتداخلة بينما تومض الأضواء، وذلك في ظل انقطاع الكهرباء عملياً، فإنَّ الأجهزة التي تساعد على إبقائهم أحياءً تُشغَّل بواسطة مُولِّد كهرباء ذي تيارٍ متغيِّر.
تقول الصحيفة "في الأسابيع الأخيرة تحرَّك عبَّاس، اعتقاداً منه بأنَّه سيجري إضعاف حماس واستشعاراً لحصوله على الدعم من إسرائيل والرئيس الأميركي دونالد ترامب وآخرين في المنطقة، لسحق حماس مرةً واحدة وإلى الأبد، وذلك باستخدام قطع الكهرباء كسلاحٍ رئيسي، علماً بأنَّ نقص الطاقة من شأنه أن يُعطِّل الخدمات الطبية سريعاً، فضلاً عن إمدادات المياه، وهو ما يدفع ثمنه 2 مليون شخص في القطاع المحاصر".
وكان مدير مكتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في قطاع غزة، جيلان ديفورن، ناشد المجتمع الدولي، بالعمل على تخفيف حدة الأزمة الإنسانية التي يعاني منها قطاع غزة، داعياً "جميع الأطراف ذات العلاقة"، إلى "بذل قصارى جهدها لضمان تلبية الاحتياجات الأساسية لسكان غزة"، وفقاً لما نشرته وكالة الأناضول التركية.
المستشفيات أكثر المتضررين
تقول الصحيفة البريطانية أنه لا يوجد مكانٌ أكثر إيلاماً لرصد تلك القبضة الخانقة على قطاع غزة أكثر من ردهات مستشفى الشفاء، يعاني فيها الأطباء الأمرَّين لإنقاذ الحيوات التي لم يلحقها الأذى نتيجة القذائف، بل جرَّاء تأثير الحصار، فيما تعيش وحدات غسيل الكلى، والرعاية المُركَّزة، ووحدات حديثي الولادة جميعها أزمةً كبيرة.
وقد رفضت السلطة الفلسطينية في رام الله بالضفة الغربية دفع ثمن الأدوية، المُستنفدة الآن على نحوٍ حرج حتى بالنسبة لمن هم في أمسّ الحاجة إليها. وتُحظَر أيضاً المدفوعات المستحقة لإسرائيل في كل مرةٍ يُحوَّل المرضى إليها، فيُرفَض السماح للأطفال الرضع، الذين يحتاجون رعايةً فائقة إلى جانب مرضى السرطان، بالمغادرة لتلقِّي العلاج في الضفة الغربية وإسرائيل. ويقول الأطباء إنَّه كان بالإمكان إنقاذ 10 مرضى توفوا جرَّاء السرطان الشهر الماضي لو أنَّهم حُوِّلوا للعلاج خارج القطاع.
لا تعرف ريتا الجليس على من تلقي اللوم في تدهور حالة خدمة الرعاية الصحية في قطاع غزة ولا تريد إلا أن تضمن أن يحصل أطفالها الثلاثة على الرعاية التي يحتاجونها ليتمكنوا من التنفس.
والأولاد الثلاثة، تسعة أشهر وست سنوات وسبع سنوات، يعانون من التليف الكيسي ويزدادون وهناً لأن الأدوية المطلوبة لعلاج هذا المرض الوراثي الذي يصيب الرئتين بدأت تنفد من مستشفيات غزة وبسبب انقطاع الكهرباء عن أجهزة التنفس الصناعي ومضخات الأكسجين.
وقالت ريتا الجليس، وهي أم لستة أطفال، وهي تحمل ابنها الأصغر في مستشفى عبد العزيز الرنتيسي للأطفال في مدينة غزة "أنا بأحمل كل الأطراف (المسؤولية).. لأن مش راضيين يهتموا في الأطفال.. مرضى عيانين إيش ذنبهم".
وتنقل الغارديان عن رئيس قسم الأورام بمستشفى الشفاء الطبيب خالد ثابت، قوله بأن معدلات الإصابة بالسرطان في غزة تتزايد بشكلٍ حاد، حيث يصاب 90 حالة من بين 100 ألف شخص في عام 2016، مقارنةً بـ65 حالة فقط في عام 2010.
ويُلقي ثابت باللائمة في ذلك على تأثير الحروب الثلاث المتعاقبة على غزة، والتي خلَّفت عناصر سامة في التربة والمياه، بما في ذلك اليورانيوم المُنضَّب. ويلقى باللوم أيضاً على استخدام إسرائيل اليومي للمبيدات الحشرية من أجل تطهير المناطق الحدودية. وهكذا الأمر مع نقص المياه النظيفة، وهو الأمر الذي يُثير المخاوف بشأن الكوليرا.
ويقول ثابت: "أتحدى العلماء الدوليين أن يأتوا إلى هنا ويدرسوا الوضع بأنفسهم، لكنَّهم يرفضون. إنَّها كارثة. إذ تأتي الأمم المتحدة إلى هنا وتقول إنَّ غزة نفسها تحتضر ولن تكون قابلة للعيش بحلول عام 2020. لكنَّها لا تقوم بأي شيء".
وسلَّطت الأزمة الجديدة الضوء كذلك على الزيادة الضخمة في عدد الأطفال المولودين بإعاقاتٍ خلقية، والذين ينتظرون جميعاً دورهم لمغادرة غزة لتلقِّي العلاج الخاص بحالاتهم. ويقول الأطباء هنا إنَّ الدراسات تثبت أنَّ العالم الخارجي قد تجاهل تلك الزيادة وارتباطها بمثالب الحصار والحرب، وفقاً للغارديان.
في حي الرمال الأكثر ثراءً في غزة، تبدو متاجر المدينة ممتلئة وتضج الشوارع بالحركة، لكنَّ البضائع غالية الثمن مستوردة بشكلٍ كبير من إسرائيل، أو عبر الأنفاق التي لا تزال تُحفَر على الحدود مع مصر رغم محاولات إسرائيل لتدميرها. وفي نهاية الشارع، يلمع البحر المتوسط أخضر اللون من جراء مياه الصرف الصحي التي تلونه بهذا الشكل حتى تل أبيب.
وكان مركز حقوقي في قطاع غزة، قد حذر الأسبوع الماضي من تداعيات تلوث مياه البحر؛ جراء تواصل ضخ مياه الصرف الصحي دون معالجة، مع استمرار أزمة الكهرباء.
وقال مركز "الميزان لحقوق الإنسان" (غير حكومي)، في بيان نقلته وكالة الأناضول، إن الفحوص التي أجرتها وزارة الصحة وسلطة جودة البيئة بالقطاع مؤخراً، أظهرت ارتفاع نسبة تلوث مياه بحر القطاع إلى 73%، ما ينذر بكارثة صحية وبيئية.
العالم لا يريد معرفة شيء
وترصد الغارديان وسط مدينة غزة، العشرات من جهات التبرع ووكالات الإغاثة الدولية يعملون في مكاتب مُكيَّفة الهواء. وإذا احتجوا على ما يرونه، لا يُنصت إليهم أحد. وفي ظل تقييد حركة هذه الجهات لـ"أسبابٍ أمنية"، لا ترى سوى القليل على أرض الواقع، ويخاف مسؤولوها من التحدث حتى لا تمنعهم إسرائيل من دخول غزة.
ويقول أحد الناشطين الذين تتردد كلماتهم المتألمة في جميع أرجاء قطاع غزة: "هذه خطةٌ منظمة، فالعالم لا يريد معرفة شيء، والجميع يتمنى موتنا، هذا كل ما في الأمر. ولأنَّ الحروب الثلاث الأخيرة لم تقضِ علينا، فجميعهم يريدنا أن نقضي على أنفسنا".
وفي مشهد أخير ترصده الصحيفة البريطانية، هذه المرة داخل وحدة حديثي الولادة، حيث توقف وميض الضوء أعلى حضانة طفلٍ وُلِد مبكراً في الشهر السابع، ولكنَّ ذلك لم يكن انقطاع الكهرباء، بل استسلم الطفل في صراعه للبقاء على قيد الحياة. وبجواره، كان يقف أبٌ شاب تعلو وجهه علامات الصدمة، ثم ارتسمت ملامح الأسى عليه.
تقول الغارديان: "قابلناه لاحقاً في بيته بمخيم جباليا للاجئين، مهد انتفاضة عام 1987، حيث تعيش زوجته و15 فرداً من أفراد أسرته في بيتٍ تكسو الألواح البلاستيكية نوافذه. وتقول والدة زوجته إنَّ الولادات المبكرة والإجهاض صارا أكثر شيوعاً من أي وقتٍ مضى، وأضافت أنَّ لديها ابن أخٍ يعاني تلفاً دماغياً، وأسفل بيتها بطابقين، وُلِد ابن إحدى جاراتها مؤخراً وهو مصابٌ بالتهاب الكبد. وأضافت: "لذلك، طلَّق الزوج زوجته، ومات الطفل".
وتحدَّثت أيضاً عن المجانين المنتشرين في كل مكان، ثم قالت ضاحكةً: "كلنا مجانين، ماذا تتوقع؟".
وأثناء الحوار، ظهر رجلٌ يمشي متثاقلاً بسبب إصابة أحد جانبيه بالشلل، وتبيَّن أنَّه زوجها. تحدثت عنه قائلةً: "لقد كان أحد الصبية من رماة الحجارة في الانتفاضة الأولى"، في إشارةٍ إلى انتفاضة عام 1987، ثم أضافت: "اعتقله الإسرائيليون وأبرحوه ضرباً، فأصيب بتلفٍ دماغي منذ ذلك الحين وحتى الآن".
وسألتهما ما إذا كانا يظنَّان أنَّ انتفاضةً جديدة ستقوم، وهل سينتفضون ضد حماس؟ فأجابا ضاحكين: "بالتأكيد لا، من سيكترث بذلك؟ يريدون منَّا أن نتخلص من عدوهم. لماذا ينبغي علينا فعل ذلك؟ بالنسبة لنا، لن يتغير شيءٌ".